كانت الأوضاع في الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1989 أكثر وضوحاً مِن اللحظة الراهنة. طهران السلطة والمجتمع يومها لم تكن معقدة كالآن. نظام ثيوقراطي يقوده زعيم سياسي وديني لم يتردد في التعبير عن نفسه. امتلك سطوته الخاصة ونفوذه غير المحدود. كان قد خرج للتو مِن حربٍ طويلة، أضرّت شعبه، هي الحرب العراقية الإيرانية، غير أنها خدمت ثبات سلطانه. الإيرانيون، كما في أشباههم من الشعوب، اتحدوا حين شعروا بأطماعٍ خارجية تهاجمهم، خصوصاً أنّ الخطاب الديني كان حاسماً في تحشيدهم. اصطفّت غالبية الشعب خلف نظامه، تطوّعوا للحرب، غير آبهين لأسئلةٍ طرحت في عام الثورة الأول، كادت أنْ تودي بطموحات الولي الفقيه.
في تلك اللحظة، مات “الولي الفقيه” آية الله خميني. الوضع في النظام لم يكن معقداً. سنوات سبقت خلّصته مِن أهم تعقيداته، مِن رموزه السياسيين الذين كان يمكن أنْ يتنافسوا بقوة على الميراث. اغتيل معظم أولئك في بدايات قيام الجمهورية الدينية. رجال الدين الأبرز صفّتهم منظمات معارضة لولاية الفقيه، وفي مقدّمتها منظمة الفرقان وحركة مجاهدي خلق، أو كانت التصفيات، كما يحلو لبعضهم القول، داخلية استخدمت فيها تلك المنظمات المعارضة. ظل رجل واحد عقبة أمام سهولة اختيار خليفة غير معهود للخميني، هو آية الله منتظري، وهو مَن كان، إلى وقت قريب، قبل رحيل مؤسسِ النظام، خليفتَه، أطيح تماماً في صراع داخلي.
بقي رجلان، هما سيّدا المشهد، خلف القائد القريب من الوفاة. علي خامنئي، رئيس الجمهورية، وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني، رئيس البرلمان. الأول يرتدي عمامة سوداء، في إشارة إلى انتمائه إلى النسل النبوي، والثاني عمامته بيضاء وتعني انتماءه إلى ما سواه. تبقى العمامة السوداء ذات سطوة في نظام ثيوقراطي، وفي مجتمع لم يكن لديه وقت كافٍ ليفكر، فالحرب مع العراق للتو انتهت.
لابد مِن خليفة إذاً، ولا بد من تمهيدٍ بإيصال شخصٍ إلى مقدّمة المشهد يكون قادراً على الخلافة
أدرك رفسنجاني وقتئذ أنه لا يريد قيادة المشهد من المقدمة، على الرغم من أنه أهم من خامنئي تاريخياً، لكنه كان يريد أن يكون الثاني كرمز، والأول كمتحكم في السياسة. توفي الخميني، وأقنع رفسنجاني مجلس الخبراء المتخم برجال الدين ذوي الحظوة بأنّ خامنئي خليفةٌ جيد، وأنّ “الإمام” طالما أشار إليه بالبنان. المشكلة أنّ البديل لم يكن فقيهاً، لم يُعرف بذلك قط، حتى أنه كان يسمّى حجة الإسلام، وهي صفة لا ترقى إلى فقيه. على الرغم من ذلك، اختير ليصبح الولي الفقيه، وبات رفسنجاني العرّابَ الذي سيصبح تالياً رئيس الجمهورية. نجح الرئيس الجديد بتنفيذ كثير من سياساته، وله الفضل في عدم إقحام طهران في حرب الخليج التي كانت تدور بجواره بين العراق والعالم، ورآها فرصةً جيدةً لتدمير العدو القديم، صدام حسين، ولإثبات فرضية أنّ الخليج أخطأ في اصطفافه خلال سنوات ثمانٍ.
عام 1989 يتكرّر الآن، أو هناك سعي إلى تكراره. اليوم تسير إيران حثيثة إلى أهم انتخابات رئاسية لها منذ 1997. إيران بلا زعامات كبيرة نافذة. رجال الثورة الأوائل لم يبق منهم سوى اثنين، خامنئي نفسه ومير حسين موسوي، آخر رؤساء الوزراء في البلاد قبل إلغاء المنصب وإلصاقه بالرئيس، وهو أيضاً المرشّح في انتخابات أثير الجدل بشأن تزويرها، وأجّجت الحركة الخضراء عام 2009، ليبقى حبيس الإقامة الجبرية. الأسماء الأخرى في الواجهة هي أرقام في معادلة الثورة أو الجمهورية.
هناك جيل جديد. والمرشد الأعلى “الولي الفقيه” يبدو قريباً مِن الموت أو هكذا يثار، وسط شائعاتٍ عن إصابته بسرطان البروستات. لذا، لا بد من خليفةٍ يناسب المنصب الجدلي في بلادٍ شهدت انتقاداتٍ كثيرة للمنصب، وحقيقة كونه عملاً فقهياً، وأسئلة بشأن مدى واقعيته واحتمالات أنه مجرّد طوباوي لا يمكن بسهولة إيجاد مِن يشغله، أو أنّ آليات ذلك ليست فاعلة، فضلاً عن الشرعية الشعبية التي يحظى بها رئيس الجمهورية أكثر من شخصٍ دائم الحكم مثل الولي الفقيه.
خيار التزوير الواسع مرعب، لأنه يعيد إلى الذاكرة عام 2009 التي لم يتعافَ النظام من تبعاتها
لابد مِن خليفة إذاً، ولا بد من تمهيدٍ بإيصال شخصٍ إلى مقدّمة المشهد يكون قادراً على الخلافة. في السابق، وتحديداً قبل عام 2018، ظل الاسم الرئيس المطروح رئيسَ السلطة القضائية السابق، محمود هاشمي شاهرودي. كان فقيهاً مميّزاً داخل النظام، ويقال إنه كان أستاذاً غير معلن لخامنئي، كي يصبح قادراً على استنباط الفتاوى، وكسب ثقة المرشد في زمن الشكوك. مشكلة وحيدة واجهت الرجل وقتئذ، أنه مزدوج الجنسية، لكونه ولد في العراق. حسم القدرُ الوضعَ، مات شاهرودي في عمر سبعين عاماً.
هناك شخص آخر، شغل منصب رئيس السلطة القضائية نفسه، ويحظى بثقة خامنئي كذلك، ويراه المعنيون مالكاً شروط أنْ يكون فقيهاً. إبراهيم رئيسي، رجل دين، في حدود ستين عاماً، أصولي متشدّد ويرتدي عمامة سوداء. بات اسماً محتملاً. هو الآن مرشّح لرئاسة الجمهورية، وكأن الإرادة السياسية للنظام قرّرت تكرار اللحظة، فالمرشد الأعلى كان رئيساً للجمهورية يوم مات سلفه. فماذا لو لم يخسر المرشح لمنصب الولي الفقيه الانتخابات ولم يصبح رئيسي رئيساً؟ كيف يمكن مرشد البلاد وقائد نظامها المدعّم بــ”شرعية السماء”، ألا يحظى بدعم الشعب واقتراعه؟ دستورياً، لا يحتاج المرشد انتخاب الشعب، لأن الانتخاب مسؤولية مجلس الخبراء. إلا أنّ خسارة ثقة الناس في انتخاباتٍ مباشرةٍ تُعَدّ عيباً يقلل من شرعية أي شخص. علاوة على ذلك، رجل لا يمتلك نفوذ رئاسة الجمهورية وسلطتها قد لا يكون قادراً على حماية نفسه مِن احتمالات مراكز القوى الأخرى المنافسة.
في الانتخابات الرئاسية، يجد النظام أزمته. كان هناك مرشّح آخر ينتمي إلى صفوة الموالين له. علي لاريجاني، رئيس البرلمان السابق، والشخص ذو التأثير الكبير بين المحافظين، والوجه المقبول في أكثر مِن مستوى، منافس رئيس وقوي لرئيسي، بل لا يمكن القول إنه سيخسر الانتخابات، لأنه الوحيد المعروف، إلا إذا زوّرت. وخيار التزوير الواسع مرعب، لأنه يعيد إلى الذاكرة عام 2009 التي لم يتعافَ النظام من تبعاتها.
لا بد مِن إبراهيم رئيسي رئيساً بأي ثمن تمهيداً لخلافة الولي الفقيه ذي الاثنين والثمانين عاماً
إذاً، تجب أزاحة العقبة الرئيسة أمام رئيسي. أزيح علي لاريجاني، ومن فعل ذلك مجلس تشخيص مصلحة النظام، برئاسة أخيه، صادق لاريجاني. ولأن البرلمان لم يعد بقوته كما كان قبل ثلاثة عقود، بدا واضحاً أنّ الحل يأتي من جهة أخرى، من مجلسٍ شُكل أواسط ثمانينيات القرن الماضي لمهماتٍ انتقالية. وكأن لاريجاني الأخ يؤدي دور رفسنجاني السابق، التمهيد للحظةٍ لا بد منها، هي لحظة خلافة خامنئي، حتى لو كان ذلك على حساب الأخوّة. استبعد علي لاريجاني، على الرغم من أنّ حياته داخل مراكز النظام الأساسية بدأت بإدارة الإذاعة والتلفزيون بديلاً يفرض إيقاعاً متشدّداً على عدم انسجام البث التلفزيوني مع أيديولوجيا النظام في مراحل أولى من تسعينيات القرن الماضي. ولا أظن أنّ لاريجاني هدف، وليس مرجحاً أنّ السبب في استبعاده مرشّحاً أن ابنته تدرس في الولايات المتحدة، بل لأن المشكلة أنه لا بد مِن إبراهيم رئيسي بأي ثمن، تمهيداً لخلافة الولي الفقيه ذي الاثنين والثمانين عاما. أي يفترض عدم استبعاد البديل من سيادة المشهد ثمانية أعوام مقبلة، هي مدة دورتين لرئاسة الجمهورية في إيران.
ويبقى السؤال عن قرار مؤسسة الحرس الثوري التي تُعَدّ أقوى عناصر النظام وأكثر المؤسسات نفوذاً مالياً وعسكرياً، على الرغم من أن هذا النفوذ أصيب بضرر بالغ بعد مقتل مَن افترض أنه ثاني أهم الفاعلين في إيران، قاسم سليماني. ويبقى سؤال آخر لا يقلّ أهمية، ما إذا كانت بلاد تشهد سخطاً شعبياً واسعاً على أداء النظام الثيوقراطي قادرةً على مواصلة نهجها القديم ذاته الذي أدى بها إلى مشكلات اقتصادية غير مسبوقة وفقدان للحريات لم يعد مقبولاً من الناس.
عمار السواد