لم تكن مسألة معرفة الآثار التي تتركها الجيوش على المناخ أمرا صعبا، فالكثير من الدراسات تفطنت إلى ذلك منذ عدة سنوات، ولم تتخذ أيّ من الدول أيّ موقف تجاه ذلك لأن الأمر كان مرتبطا أساسا بالحفاظ على نشاط قطاع النفط. واليوم يبدو حلف شمال الأطلسي في مهمة مستحيلة للتخلص من الكربون العسكري، ليس لأنه طموح جماعي للحد من التهديد المناخي بل لأنه ليس من السهل اعتماد ترسانة من الأسلحة صديقة للبيئة في غضون بضع سنوات.
بروكسل/برلين – قرر حلف شمال الأطلسي (ناتو) للمرة الأولى منذ تأسيسه أن يجعل من مكافحة التهديدات المناخية محورا رئيسيا في التخطيط والاستراتيجية العالمية، لكن التساؤل الكبير الذي يطل برأسه من بين ثنايا هذه القضية الحساسة يتمحور حول كيفية تنفيذ أعضاء الحلف لخطتهم خاصة وأن مسألة الحياد الكربوني بالنسبة إلى القوات المسلحة تبدو أمرا صعبا للغاية.
فقد خلصت دراسة أجريت عام 2019 إلى أنه لو كان الجيش الأميركي دولة لاحتل المركز السابع والأربعين في قائمة أكبر دول العالم إطلاقا للغازات المسببة للاحتباس الحراري. فالميزانية التي يخصصها البنتاغون أثرت على مناخ كوكب الأرض، حيث أن كمية الغازات الدفيئة الناجمة عن أنشطة القوات الأميركية تضاهي كمية تنتجها 140 دولة مجتمعة.
ورغم أن جامعتي لانكستر ودرم البريطانيتين في ذلك الوقت لم تأخذا في الاعتبار خلال الدراسة سوى الانبعاثات الناتجة عن استخدام الوقود، فقد أشار الخبراء والباحثون في تلك الدراسة المشتركة إلى الأثر الهائل للقوات المسلحة في مختلف أنحاء العالم على مسألة الاحتباس الحراري.
يريد قادة التحالف العسكري الغربي الاتفاق على خطة عمل بخصوص المناخ، عندما يجتمعون الاثنين في بروكسل، بما يحقق لقواتهم المسلحة الحياد الكربوني بحلول 2050 والتكيف مع التهديدات التي يفرزها الاحتباس الحراري، وقد يجدون عقبات جديدة حتى مع انتهاء فترة ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي لم يكن مهتما بهذه القضية حتى مع وجود إدارة أميركية جديدة.
ويقول دبلوماسيون في حلف الأطلسي إن الجهود الرامية للتركيز على التغير المناخي واجهت عراقيل خلال رئاسة ترامب للولايات المتحدة، فقد دأب على وصف التغير المناخي بأنه “أكذوبة”، كما سحب بلاده من اتفاقية باريس الدولية، التي تم إقرارها رسميا في ديسمبر 2015 لمحاربة التغير المناخي.
وفي 2018 أبدى ترامب عدم ثقته في الناتو مما تسبب في شرخ بين ضفتي الأطلسي، وانتهى به المطاف بأن يهدد بسحب الولايات المتحدة من هذا التحالف الذي تشكل عام 1949 لاحتواء التهديد العسكري السوفيتي. والآن وفي ضوء إيلاء الرئيس الديمقراطي جو بايدن الأولوية للتحرك على صعيد المناخ يرى دبلوماسيون أن الحلف ربما يكون قادرا على معالجة المخاوف من خطر التغير المناخي على الأمن عبر الأطلسي وعلى أفراد التحالف.
وتدرك القوات المسلحة للدول الأعضاء في حلف الناتو أن التغير المناخي ستكون له تداعيات أمنية كبيرة من المتوقع أن تشمل زيادة الهجرة وإغراق القواعد الساحلية التابعة للحلف وتزايد الوجود الروسي في الدائرة القطبية الشمالية مع ذوبان الثلوج البحرية.
لكن لتقليل الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري جراء استخدام الوقود الأحفوري تحتاج الدول الأعضاء لإجراء إصلاحات في قلب التحالف لأن الحلف يحدد معايير الوقود في مختلف قطاعاته. وبالالتزام بتحقيق الحياد الكربوني في العقود الثلاثة المقبلة، فإن خطة العمل بالحلف ستضعه على الطريق لتحقيق هدف اتفاقية باريس بالحد من ارتفاع درجة الحرارة عالميا بواقع 1.5 درجة مئوية.
وسيعني تحقيق ذلك الهدف تقليل الانبعاثات الغازية العسكرية المستثناة في كثير من الأحيان من مستهدفات الدول في ما يتعلق بالانبعاثات الكربونية وهو إنجاز ليس بالهين لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أكبر مستهلك منفرد في العالم للبترول، كما أشار إلى ذلك بحث أعدته نيتا كروفورد بجامعة بوسطن عام 2019.
ورغم أن الخبراء يقولون إن دول الاتحاد الأوروبي تميل للتهوين من انبعاثات جيوشها الوطنية فقد قدرت دراسة أجريت في فبراير الماضي بطلب من البرلمان الأوروبي أن البصمة الكربونية للإنفاق العسكري في الاتحاد الأوروبي خلال 2019 بلغت 24.8 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون أي ما يعادل الانبعاثات الناتجة عن حوالي 14 مليون سيارة.
وقال خبير دفاعي ألماني لوكالة رويترز، طلب عدم نشر اسمه، إن دبابة قتالية رئيسية مثل الدبابة ليوبارد الألمانية تستهلك قرابة 400 لتر من وقود الديزل في الميدان لقطع مسافة 100 كيلومتر فقط.
ويطبع السياسة المناخية للجيش الأميركي التناقض، فرغم سعي البنتاغون لجعل بعض عملياته صديقة للبيئة من خلال زيادة توليد الكهرباء المتجددة في قواعده العسكرية، فإنه لا يزال أكبر مستهلك للهيدروكربونات في العالم.
ففي دراسة جامعتي لانكستر ودرم، أظهرت الإحصائيات أن الجيش الأميركي يستهلك نحو 27 ألف برميل يوميا من الوقود وأن كمية الانبعاثات الضارة تقدر بحوالي 25 ألف كيلو طن بمعدل إنفاق سنوي يبلغ 8.7 مليار دولار، فقط لبند الوقود.
يصف كل من ينس ستولتنبرغ الأمين العام لحلف شمال الأطلسي وأنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة التغير المناخي بأنه “مضاعف للأزمات” ليس فقط بالنسبة إلى العالم، بل إنه قد لا يكون أمرا مجديا في مسار تحويل أسطول الدبابات وأسراب الطائرات والغواصات إلى صديقة للبيئة.
ومع ذلك يطمح ستولتنبرغ مبعوث الأمم المتحدة السابق المختص بالتغير المناخي، الذي بدأ يطالب باتفاق مناخي تاريخي على مستوى حلف الأطلسي بعد أن حل بايدن محل ترامب، فبرأيه أن الوقت مناسب من أجل وضع استراتيجية موحدة تخرج الجميع من هذا المأزق.
ومن المحتمل أن تكون حرب الدبابات أصعب في ظل الاحتباس الحراري. ويضرب خبراء عسكريون أمثلة على ذلك بالقول إن درجات الحرارة ارتفعت في الدبابات الألمانية أوزيلوت خلال مناورة أجراها حلف شمال الأطلسي في بولندا عام 2019 عن 40 درجة مئوية ولم يستطع الجنود أن يقضوا سوى بضع ساعات داخلها.
ويعمل بعض أعضاء الحلف لتقليل استهلاك الكهرباء أو دمج نماذج التنبؤ المناخي في المهام العسكرية. ولدى ألمانيا، على سبيل المثال، أول ثكنة تتمتع بالحياد الكربوني إذ تنتج الطاقة بالكامل تقريبا من وحدات تستخدم حرارة باطن الأرض أو من ألواح شمسية. ويمكن للجيش الهولندي استخدام ألواح شمسية بدلا من مولدات الديزل خلال العمليات.
الدبابات الكهربائية ليست خيارا مطروحا حتى على المدى البعيد إذ من الصعب إنشاء محطات شحن في ساحات المعارك
وتتوقع الجيوش أيضا المزيد من العمليات في مناطق عرضة لتقلبات مناخية في ظل استدعاء قوات لمعالجة كوارث طبيعية ناتجة عن المناخ. وإدارة مثل هذه الأزمات من المهام الرئيسية لدى الحلف بفضل قدرته على توفير الإمدادات الغذائية والدعم اللوجيستي والطبي بسرعة.
وبحسب دراسة أعدها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإنه في 2018 كانت ثماني من الدول العشر، التي استضافت أكبر عدد من الأفراد المشاركين في عمليات متعددة الأطراف لحفظ السلام في مناطق معرضة بشدة لتقلبات التغير المناخي.
وتؤكد مصادر دفاعية أوروبية وخبراء عسكريون مطلعون على خطط الحلف أن أعضاء الناتو يختبرون أيضا معدات أكثر للعمل في ظروف البرد القارس، حيث تعد متانة العتاد في ساحة المعركة من الأولويات ويتعين على أعضاء حلف شمال الأطلسي أن يقرروا حجم الاستثمارات المرتبطة بالمناخ لتمويلها جماعيا في الحلف.
ولأن تطوير العتاد العسكري يستغرق عقودا كما أن أعماره أطول من الأعمار الافتراضية للسيارات المدنية، يقول خبراء إن واحدا من أكبر مساهمات حلف شمال الأطلسي في الأجل المتوسط سيكمن في زيادة استخدام الوقود التركيبي بدلا من الوقود الأحفوري.
وربما يبدأ الجيش الألماني في إضافة الوقود التركيبي إلى الوقود التقليدي خلال بضع سنوات. غير أن الدبابات الكهربائية ليست خيارا مطروحا، فقد قال مصدر دفاعي ألماني طلب عدم نشر اسمه لرويترز إنه «سيكون من الصعب إنشاء محطات شحن في ساحات المعارك في الوقت المناسب قبل بدء القتال».
العرب