بدت الانتخابات التي أجراها النظام السوري، في 26 مايو/أيار من العام الجاري (2021)، وكأنها عملية “هروب إلى الأمام” في ظل استمرار الملفات العالقة بين الفاعلين الدوليين المؤثرين في سوريا، وعلى رأس تلك الملفات مستقبل محافظة إدلب، التي لا يزال مصيرها متأرجحًا إلى يومنا هذا.
بقيت محافظة إدلب شمال غرب سوريا إحدى أهم المناطق المشتعلة بالمواجهات بين فصائل المعارضة السورية وقوات النظام إلى مطلع عام 2020، بل يمكن وصفها بأنها كانت إحدى أكثر البؤر الملتهبة.
ورغم الاتفاق الذي جرى توقيعه، في مارس/آذار 2020، بين كل من الرئيس التركي “أردوغان” ونظيره الروسي “بوتين” لفرض الهدنة في إدلب، إلا أن المنطقة إلى يومنا هذا تخضع للتجاذبات السياسية التي تتخللها مناوشات ميدانية، كما أنها محور المباحثات المستمرة بين الوفود التقنية التركية-الروسية.
تتناول هذه الورقة التحليلية موقع إدلب في خريطة الصراع السوري، وأهميتها بالنسبة لكل من النظام السوري والمعارضة، وأجندات الفاعلين الدوليين في إدلب والملف السوري عمومًا، بالإضافة إلى مآل هذه المنطقة والسيناريوهات المحتملة.
أولًا: إدلب والمعارضة
لمحافظة إدلب أهمية في الاقتصاد السوري، فهي عقدة وصل مهمَّة بين مناطق شرق وشمال سوريا من جهة، والموانئ الساحلية غرب البلاد من جهة أخرى، بالإضافة إلى كونها منطقة حدودية مع تركيا وفيها معبر “باب الهوى” البري؛ مما يجعلها بوابة عبور مهمة باتجاه البحر المتوسط، ومحطة أساسية لمرور البضائع من أوروبا عبر تركيا إلى جنوب سوريا، ثم دول الخليج مرورًا بالأردن. وزاد من هذه الأهمية على الصعيد الاقتصادي قرب إدلب من محافظة حلب (العاصمة الاقتصادية لسوريا) وإحدى أهم المدن الصناعية في البلاد، فقد أصبحت بهذا محطة أساسية في نقل البضائع المخصصة للتصدير من حلب إلى الموانئ الساحلية.
الإهمال السياسي وعدم دعم المشاريع الزراعية والتنموية في إدلب من قبل النظام السوري، جعل من المنطقة بؤرة أساسية في الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في مارس/آذار 2011، وأسهم في الإقبال الجماهيري الكبير على التظاهرات المناهضة للنظام السوري بُعد المحافظة عن مركز السلطة، وخلوها تقريبًا من انتشار وحدات الجيش الرئيسية التي حرص النظام على نشرها في محيط مدن رئيسية، وهي: دمشق-حلب-حمص-اللاذقية. وبعد مرور أشهر من عمر الانتفاضة، تحولت إدلب إلى مركز ثقل رئيسي للحراك الشعبي في مواجهة النظام، وباتت مدنها الرئيسية (إدلب-أريحا-معرة النعمان-جسر الشغور) تشهد نزول الآلاف من المتظاهرين إلى الساحات.
مع تحول المشهد السوري من المظاهرات الشعبية إلى العمل المسلح ضد النظام السوري في بدايات 2012، أصبحت محافظة إدلب أكثر أهمية بسبب موقعها المتميز على الحدود، خاصة مع تشكيل غرف عمليات دولية لدعم الفصائل العسكرية التابعة للمعارضة في كل من الأردن وتركيا، والتي عُرفت باسم “موم” و”موك”(1). وقد أصبحت منطقة “باب الهوى” التي تضم معبر حدودي يصل الأراضي السورية مع تركيا المقر الرئيسي لما يعرف بـ”هيئة أركان الجيش السوري الحر”، التي كانت بمنزلة مظلة تستقبل الدعم العسكري الدولي وتقوم بتوزيعه على فصائل “الجيش السوري الحر” في شمال ووسط سوريا، وبعض مناطق ريف دمشق كالغوطة الشرقية. بهذا صارت إدلب شريان دعم مهمًّا للمقاومة المسلحة ضد النظام السوري، وبوابة أساسية لتلقي المساعدات الإنسانية التي يجري توزيعها على المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، والأهم من ذلك كله أن الاستحواذ على الطرق الدولية الواصلة بين حلب-اللاذقية (M4)، وحلب-دمشق (M5)، والتي تمر من محافظة إدلب، أدى إلى إحداث ما يشبه الشلل في التبادل التجاري والحياة الاقتصادية لدى النظام السوري.
باتت إدلب، باستثناء قريتي “كفريا” و”الفوعة”، في ربيع عام 2015، أول مركز محافظة تسيطر عليه الفصائل العسكرية المقاتلة المناهضة للنظام(2) السوري بشكل شبه كامل، والتي كانت تقاتل وقتها ضمن غرفة عمليات “جيش الفتح”(3)، ولم يبق من إدلب سوى القريتين اللتين بقيتا خاضعتين لسيطرة فصائل مسلحة موالية لإيران. واستطاع “جيش الفتح” بعد أسابيع قليلة فقط السيطرة على ريف إدلب الغربي (أريحا-جسر الشغور)، لتهدد الفصائل بهذا أهم حاضنة شعبية للنظام، ألا وهي محافظة اللاذقية، التي وصلت الفصائل إلى مشارفها الشمالية وتحديدًا “معسكر جورين”(4).
هذه الأسباب مجتمعة جعلت من محافظة إدلب ذات أهمية كبيرة للقوى العسكرية التي تحارب النظام السوري على اختلاف أسمائها (معارضة معتدلة-فصائل جهادية)، حتى تضمن حضورها في المشهد السوري وتحتفظ بحظوظها على طاولة المفاوضات، وذات أهمية كبيرة أيضًا بالنسبة للنظام الذي بات يرى في إدلب أنها العقبة الأكبر في استعادة سيطرته على الأراضي السورية وإعلان “النصر الحاسم”، خاصة أن عودته إلى إدلب تعني وضع حدٍّ للتدخل الدولي من البوابة التركية في الوضع الميداني على الأراضي السورية.
وبدورها، تنظر التنظيمات الجهادية، وأبرزها “هيئة تحرير الشام”، إلى محافظة إدلب على أنها الملاذ الأخير، على اعتبار أنها غادرت مع فصائل المعارضة السورية كل من ريف دمشق وحمص وريف حماه باتجاه إدلب، وهذه الورقة مهمة لها ليس فقط على الصعيد العسكري، بل من ناحية فرض نفسها كلاعب أساسي في الحل السياسي، لأن التحول إلى لاعب سياسي يضمن لتلك التنظيمات البقاء وعدم ترك مكوناتها عرضة للتصفية الميدانية بذريعة أنها “تنظيمات مصنَّفة على قائمة الإرهاب”.
ثانيًا: مصالح الفاعلين الدوليين
تلعب أطراف إقليمية ودولية أدوارًا رئيسية في الأزمة السورية، تتلاقى وتتعارض مصالحها، لاسيما في إدلب:
تركيا: تأثير إدلب وأحداثها على تركيا ومساسها بشكل مباشر بأمنها القومي، جعل أنقرة توليها أهمية بالغة ومبكرة، تجسدت هذه الأهمية بشكل أوضح بعد عام 2017 من خلال إرسال قوات من الجيش التركي إلى إدلب؛ حيث قامت أنقرة بنشر 12 نقطة مراقبة من أجل الحفاظ على وقف إطلاق النار فيها(5). كما وقفت بوجه محاولات قوات النظام السوري المدعومة روسيًّا، للسيطرة على إدلب، وزادت من حضورها العسكري فيها، فبلغ عدد الجنود الأتراك هناك مع حلول عام 2020 أكثر من 10 آلاف جندي(6) وبات انتشارها العسكري يتخذ شكل “خط فولاذي” لمنع تقدم قوات النظام السوري باتجاه المدن المؤهلة بالسكان منها مركز محافظة إدلب ومدينة أريحا والمدن والبلدات الواقعة شمال المحافظة(7).
ويمكن فهم مصالح تركيا في إدلب من خلال النظر إلى محددات أساسية، أولها: مخاوف أنقرة من موجات نزوح جديدة باتجاه الأراضي التركية في حال سقطت إدلب بيد النظام السوري؛ ما سيلقي أعباء كبيرة عليها في ظل تراجع مؤشرات الاقتصاد، وسيعطي فرصة للمعارضة التركية لانتقاد الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، كما أن فقدان هذه المساحة يعني تلاشي الآمال الخاصة بفرض الاستقرار وتسهيل عودة اللاجئين السوريين التدريجي إلى الأراضي السورية، واستمرار استنزاف الرصيد الشعبي لحزب العدالة والتنمية في الجولات الانتخابية المتلاحقة، والذي كان واضحًا خلال الانتخابات البلدية الأخيرة (عام 2019) من خلال خسارة “العدالة والتنمية” للولايات الكبرى مثل أنقرة وإسطنبول. وتصرُّ تركيا خلال مفاوضات الوفود التقنية مع روسيا على انسحاب النظام السوري من مدن خان شيخون-سراقب-معرة النعمان التابعة لمحافظة إدلب، والعودة إلى حدود مناطق السيطرة وفق اتفاق “سوتشي”، الذي جرى توقيعه في شهر سبتمبر/أيلول 2018، وذلك لإعادة عشرات الآلاف من المهجَّرين المقيمين على الشريط الحدودي إلى مناطقهم. ومنذ أواخر عام 2020، تناقش أنقرة وموسكو خلال لقاءات الوفود التقنية إمكانية انتشار الشرطة العسكرية الروسية أو شرطة محايدة يجري تشكيلها لضمان عودة النازحين من قرب الحدود التركية إلى مناطقهم(8).
المحدد الثاني لموقف أنقرة في إدلب هو “تقويض الحزام الكردي” على الحدود السورية-التركية بقيادة وحدات الحماية “الكردية” (YPG) التي تصنِّفها أنقرة أنها الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وتنظر إلى هذا الحزام على أنه مرحلة أولى من إنشاء دولة ستمتد إلى داخل الأراضي التركية. فأطلق الجيش التركي عملية “درع الفرات” في شمال حلب، عام 2016، ضد “تنظيم الدولة” (داعش)، ليحيط بذلك بمنطقة “عفرين” المتاخمة لإدلب، وهي من الأقاليم الأساسية التي أنشأتها الوحدات “الكردية” داخل سوريا إلى جانب كل من “رأس العين” و”عين العرب” و”القامشلي”، قبل أن تتمكن القوات التركية بعملية مشتركة مع فصائل المعارضة السورية حملت اسم “غصن الزيتون” من دخول عفرين، أواخر عام 2018. ولقد ضمنت التحركات العسكرية التركية في كل من “إدلب” و”عفرين” عرقلة اتصال محتمل بين قوات النظام السوري و”قوات سوريا الديمقراطية “(تشكل وحدات الحماية العمود الفقري لها)، وما يفتحه هذا التواصل الجغرافي من فرص للطرفين من أجل العمل المشترك ضد مصالح أنقرة وأمنها القومي؛ إذ إن هذا الاحتمال يبقى قائمًا وبقوة في ظل عدم انقطاع المحادثات والمفاوضات بين الطرفين وبرعاية روسية، ومحاولة التفاهم على صيغة مناسبة للعمل المشترك، تعيد الأذهان إلى حقبة ثمانينات القرن الماضي، التي احتضنت فيها دمشق زعيم حزب العمال الكردستاني “عبد الله أوجلان”(9).
تدرك أنقرة أن خسارتها لإدلب ستعني بالضرورة ضعف أوراقها في الملف السوري، وستحد من قدرتها في صياغة الحل السياسي المستقبلي، كما ستضعفها في مواجهة كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، حيث لا تزال تركيا قلقة من سيطرة وحدات الحماية “الكردية” على مناطق واسعة قرب الحدود التركية، مستفيدةً من الدعم الأميركي بشكل أساسي، والغطاء الروسي في بعض المناطق مثل “تل رفعت” و”منبج” بريف حلب، و”عين عيسى” بمحافظة الرقة.
ومنذ بداية عام 2020، كثف الجيش التركي من قواته في منطقة “جبل الزاوية” المطلة على الطرق الدولية في محافظة إدلب، بالإضافة إلى الانتشار الواسع على الطريق الدولي، إم فور (M4) الواصل بين شمال سوريا وغربها، سعيًا من أنقرة لامتلاك أوراق تفاوض تجعلها حاضرة في المشهد بشكل فاعل، إذ من شأن السيطرة على الطرق الدولية أن يعزز دور تركيا وخياراتها في مواجهة واشنطن الراغبة في تطبيق العقوبات الاقتصادية على النظام السوري بشكل صارم، وكذلك في مواجهة روسيا التي تريد استعادة عمل الطرق الدولية والتبادل التجاري، والتي أظهرت في أكثر من محطة استعدادها لتجاوز الدور التركي في سوريا، من خلال فرض واقع عسكري في حال تمكنت من ذلك.
ولا يمكن إغفال المكاسب التي تجنيها أنقرة ضمن حلف شمال الأطلسي كمقابل تصديها لمشكلة الهجرة القادمة من إدلب باتجاه الأراضي الأوروبية، خاصة أن أنقرة تطمح لإعادة تعريف دورها ضمن الحلف والتحول إلى فاعل أساسي في رسم سياساته(10).
روسيا: بعد سقوط نظام “معمر القذافي” في ليبيا على يد دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بادرت روسيا إلى تعزيز نفوذها ضمن حوض البحر المتوسط من بوابة سوريا(11) ، فوقفت منذ البداية إلى جانب “بشار الأسد” وساندته سياسيًّا عن طريق مجلس الأمن، وعسكريًّا من خلال الاستشارات والدعم العسكري التقني، ولم تتردد بالتدخل العسكري المباشر عندما شعرت موسكو، عام 2015، أن نظام الأسد بات في خطر حقيقي، بعد أن سيطرت فصائل المعارضة في ريف دمشق على جبال دوما المطلة على العاصمة، ووصول طلائع غرفة عمليات “جيش الفتح” إلى أطراف شمال اللاذقية غرب البلاد. كما أنشأت روسيا، في سبتمبر/أيلول 2015، قاعدة جوية في منطقة “حميميم” بريف اللاذقية، وأتبعتها، في أكتوبر/تشرين الأول 2016، بقاعدة بحرية في مدينة طرطوس، وأصبحت القاعدتان لاحقًا نقطتي ارتكاز لروسيا في البحر المتوسط عمومًا، واستخدمتهما لاحقًا في نقل العتاد الحربي والمقاتلين إلى ليبيا(12).
شكَّلت إدلب، مركز ثقل المعارضة المسلحة، تحديًا أمنيًّا وسياسيًّا كبيرًا لروسيا في ظل الأدوار الدولية المعقدة على الساحة، فقد كانت بلدات شمال حماه التي تتبع لمنطقة خفض التصعيد الرابعة (تسمى منطقة إدلب اصطلاحًا) منطلقًا للطائرات المسيرة لمهاجمة قاعدة “حميميم” بريف اللاذقية التابعة للجيش الروسي(13). فتوغلت موسكو داخل إدلب للتخلص من هذا التهديد ولتقترب أكثر من المناطق الحدودية، وبالتالي تمهد الأجواء للتفاوض مع تركيا الداعم الأساسي لفصائل المعارضة التي كانت تستهدف القاعدة الروسية الاستراتيجية عبر الطائرات المسيرة، وقد استطاعت موسكو بالفعل إنهاء تلك الهجمات.
وَسَعَتْ روسيا من خلال عملياتها العسكرية إلى إحكام السيطرة على الطرق الدولية، وذلك بهدف فرض إعادة فتح تلك الطرقات وضمان تدفق البضائع إلى جنوب سوريا، وهي إلى اليوم تركِّز على هذا الهدف خلال اللقاءات مع الجانب التركي وتعمل على تحقيقه بالطرق الدبلوماسية(14).
بالنسبة لموسكو، فإن النجاح في خلق عملية التبادل التجاري بين النظام السوري ومناطق المعارضة، يعد فرصة مهمة لتطبيع الوضع السياسي بين الطرفين، وأيضًا فإن تفعيل الطريق الممتد من ولاية غازي عنتاب التركية إلى دمشق مرورًا بشمال سوريا، يتيح للنظام السوري خلق شراكات مع دول الجوار من البوابة الاقتصادية.
إيران: الحضور الإيراني في سوريا يتيح لطهران فرصة الوصول إلى البحر المتوسط، لتأمين خطوط تصدير الغاز والنفط باتجاه أوروبا. ولذلك، كان هناك اهتمام إيراني بالتغلغل داخل المؤسسات العسكرية للنظام السوري، بالإضافة إلى نشر “ميليشيات” على الطريق الواصل بين طهران وبيروت مرورًا بمحافظتي دير الزور وحمص السوريتين، وكذلك عززت إيران من حضور هذه الميليشيات في إدلب المتاخمة لمحافظة اللاذقية والمطلة على البحر المتوسط.
أما نفوذ إيران في إدلب وكذلك حلب، فإنه يوفر لطهران فرصة مهمة للضغط على تركيا بهدف ضبط سياساتها في منطقة الشرق الأوسط عمومًا وفق المصالح الإيرانية، في ظل تصاعد العمليات العسكرية التركية على الأراضي العراقية.
إلا أن الدور الإيراني غاب عن محافظة إدلب منذ ما قبل توقيع اتفاق سوتشي، منذ سبتمبر/أيلول 2018 وحتى منتصف 2019، لأن طهران كانت مهددة بموجة عقوبات أميركية جديدة ولم ترد إغضاب تركيا. لكن شهد صيف 2019 انخراط قوات “حزب الله” وبعض تشكيلات الحشد الشعبي العراقي المدعومة إيرانيًّا في العمليات العسكرية ضد المعارضة السورية بمحافظة إدلب، فيما بدا أنه رد فعل على تجاوب أنقرة مع الولايات المتحدة في قضية العقوبات الاقتصادية وخفض كمية النفط المستوردة من إيران إلى مستوى غير مسبوق، ويمكن تفسيره أيضًا على أنه محاولة إيرانية للضغط على تركيا التي وسَّعت من تحركاتها في العراق(15). ومنذ أواخر عام 2019، أصبحت الميليشيات الإيرانية تنتشر بكثافة في كل من “سراقب” وريفها شرق إدلب، بالإضافة إلى أطراف منطقة “جبل الزاوية” جنوب المحافظة، وريف حلب الجنوبي المتاخم لإدلب(16).
وفي شهر مايو/أيار 2021، أعلنت إيران عن افتتاح قنصلية لها في مدينة حلب، وعلى الأرجح ستكون تلك القنصلية مقرًّا استخباراتيًّا لمتابعة الأوضاع عن قرب في حلب وإدلب، ولتخطيط تحركات الميليشيات المدعومة إيرانيًّا المنتشرة شمال غرب سوريا عمومًا(17).
الولايات المتحدة الأميركية: لم تنخرط واشنطن بشكل كبير في الصراع السوري، لكن عملت على امتلاك أوراق مهمة للضغط على الأطراف الأخرى، مثل وضع اليد على حقول النفط شمال شرق سوريا والعقوبات الاقتصادية، إلى جانب الإدارة من الخلف وفق مصالح واشنطن لبعض الصراعات في سوريا بين من تعتبرهم خصومًا أو منافسين لها. غاب الحضور الأميركي الفعلي عن تطورات إدلب، واكتفت واشنطن، في مناسبات عديدة أثناء التصعيد الروسي على إدلب، بتأكيد دعمها للجهود التركية، ووقوفها إلى جانب أنقرة في مواجهة تقدم النظام السوري. وفي سياق التأكيد على هذه السياسة، بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا في مطلع شهر مارس/آذار 2020، زار المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا “جيمس جيفري” معبر “باب الهوى” الواصل بين تركيا وإدلب(18).
أعلنت واشنطن مرارًا عن معارضتها لاجتياح المنطقة من قبل النظام السوري وروسيا لتفويت فرصة الحسم في سوريا لصالح موسكو(19)، ومن جهة أخرى، عدم إتاحة الفرصة لخرق الحصار الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة على النظام السوري عبر بوابة إدلب لأنها ترى في العقوبات الاقتصادية ورقة مهمة للتأثير في المشهد السياسي وعدم تركه بالكامل لروسيا.
تدرك الولايات المتحدة الأميركية أن إتاحة الفرصة لروسيا لحسم ملف إدلب عسكريًّا يعني إنهاء آخر معقل للفصائل العسكرية المناهضة للنظام السوري، وبالتالي تسجيل نصر حاسم على مناهضي نظام الأسد، وفقدان ورقة مهمة تتيح لها التحكم بالسلوك الروسي وضبطه في سوريا والمنطقة عمومًا.
إن بقاء منطقة متنازع عليها بين روسيا وتركيا، مفيد بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية لجهة تفويت الفرصة على روسيا للتقارب أكثر مع أنقرة وإبعادها عن تحالفاتها الغربية. ومن ناحية أخرى، فإن استمرار التوترات بين تركيا وروسيا يعني صعوبة تركيز جهود الطرفين على شمال شرق سوريا حيث النفوذ الأميركي.
ثالثًا: تأثير إدلب على التسوية السياسية
يمكن تحديد تأثير إدلب على التسوية السياسية من خلال النظر إلى السيناريوهات المحتملة التالية:
أحدها، تجميد الصراع: يعتبر سيناريو “تجميد الصراع” على وضعه الراهن من ضمن السيناريوهات المحتملة جدًّا في محافظة إدلب، ومما يقوِّي فرصه أن الدول المساندة لكل من النظام السوري والمعارضة تتمسك بمواقفها في مختلف المناطق، وتدعمانهما بالقوة العسكرية المباشرة ميدانيًّا.
فمن جهة، لم تلتزم روسيا بتعهداتها المتعلقة بإبعاد تنظيم وحدات الحماية عن المناطق الحدودية مع تركيا(20)، وتحتفظ بتواصل مع التنظيم في القامشلي ومنبج وعين عيسى، وهذا يدفع تركيا لرفض تقديم أي تنازل في سوريا وملف إدلب على وجه التحديد. وبالمقابل، فإن أي تراجع تركي في إدلب يعني المزيد من الخسائر في الملف السوري، وتراجع التأثير في الحل السياسي. الانتشار العسكري التركي المباشر في إدلب، والموقف الأميركي المساند لأنقرة، سيشكِّل حاجزًا في وجه روسيا في حال ما أرادت الحسم العسكري.
إن تجميد الصراع سيدفع الدول الفاعلة، وعلى رأسها روسيا، للبحث عن خيارات من أجل دفع التسوية إلى الأمام، خاصة أن الانتخابات الرئاسية التي أجراها النظام السوري مؤخرًا لم تلق قبولًا دوليًّا، وبالتالي ستكون هناك صعوبات حقيقية أمام المحاولات الروسية لتسويق النظام على صعيد المجتمع الدولي.
على الأرجح، ستبحث موسكو عن المخرج من بوابة إعادة تفعيل مسار اللجنة الدستورية المعطلة، ثم الدعوة إلى إجراء انتخابات لاحقًا وفق دستور معدل أو جديد، مع التركيز على ألا يُستثنى أي طرف من تلك الانتخابات، وقد يكون هذا الخيار مناسبًا للدول بما فيها تركيا مع اشتراط حضور مراقبين دوليين، مما يتيح إسدال الستار بالتدريج على الصراع في سوريا بمشاركة جميع الأطراف بتوزيع المكاسب وفق موازين القوة على الأرض. وقد يتخلل عملية التهدئة محاولات روسية للضغط عبر مسارين: الأول: مناوشات عسكرية وقصف جوي متقطع، والثاني: التلويح بمعارضة تمديد برنامج إدخال المساعدات إلى شمال غرب سوريا عن طريق معبر “باب الهوى”.
والسيناريو الآخر، التصعيد العسكري: من الممكن أن تتجه الأوضاع في إدلب إلى التصعيد الميداني خلال المستقبل القريب، وهذا قد يحدث في حال رغبت بعض الأطراف الدولية مثل الولايات المتحدة الأميركية بالضغط على روسيا من البوابة السورية، أو الضغط على إيران بما يخدم مسار المفاوضات حول تجديد الاتفاق النووي، والعمل على تحجيم نفوذها تمهيدًا لتوقيع اتفاق نهائي يراعي تأطير الدور الإيراني في المنطقة، إلا أن فرص التصعيد العسكري لن تكون كبيرة إلا في حال انخرطت فيه تركيا لتحقيق أهداف معينة، ومنها إبعاد “الميليشيات الإيرانية” عن مناطق عديدة، والضغط على روسيا من أجل فتح ملف المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم وحدات الحماية، وبإشراف كل من إيران وروسيا، مثل: تل رفعت-منبج في ريف حلب، وعين عيسى بريف الرقة.
ومن المحتمل أن تتجه روسيا للتصعيد، كمحاولة لفرض الحسم العسكري في حال استمرت حالة الجمود السياسية والعسكرية، لكن يبقى خيار الحسم صعبًا في ظل الانتشار التركي بمحافظة إدلب.
إن عودة التصعيد العسكري في إدلب -رغم أنه السيناريو الأقل ترجيحًا- سيعني بالضرورة تجميد ملف التسوية السياسية وتأجيله على المستوى القريب والمتوسط إلى حين ترتيب الملفات الميدانية العالقة في شمال غرب وشمال شرق سوريا، كما أن التصعيد قد يكون وسيلة من أجل تحريك الملف السياسي.
خاتمة
من الواضح أن مصالح الجهات الدولية الفاعلة في الملف السوري -خاصة تركيا وروسيا- اصطدمت في منطقة إدلب، مما عزز عملية بحث الأطراف عن تفاهمات تجنِّبها الصدامات المباشرة، وتضمن لها في الوقت ذاته تحقيق الحد الأدنى من مصالحها، وغالبًا فإن هذا المسار سيتسمر مستقبلًا.
ويبدو أن أنقرة ستتمسك بواقع السيطرة الحالي في محافظة إدلب، وكذلك ستفعل فصائل المعارضة السورية المتمثلة بـ “الجبهة الوطنية للتحرير”، بالإضافة إلى “هيئة تحرير الشام”، لأن خسارة إدلب لصالح النظام السوري وروسيا تعني إخراج الأطراف المذكورة خارج دائرة التأثير.
ثبات واقع السيطرة في إدلب لا يعني توقف المفاوضات حول تعزيز التفاهمات المحدودة، وبالتالي فقد نشهد افتتاح معابر تجارية بين محافظة إدلب ومناطق سيطرة النظام السوري، وقد يكون هذا المقابل الذي ستحصل عليه روسيا مقابل عدم عرقلة وصول المساعدات عن طريق معبر “باب الهوى”.
وفي حال استمرار الهدوء في إدلب سينصبُّ اهتمام الأطراف الدولية على دفع العملية السياسية المجمدة للأمام، وقد لوَّحت روسيا بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة في سوريا بإجراء انتخابات مبكرة في حال تم التوصل إلى تفاهم جديد بين النظام السوري والمعارضة؛ الأمر الذي يدل على الرغبة في بقاء باب المفاوضات مفتوحًا.