شبكة الأسئلة التي تطرحها الحكومة الإسرائيلية الجديدة تبدو متنوعة ومتقاطعة ومتعددة، مُستعادة على نحو أو آخر أكثر مما هي طارئة أو غير مسبوقة. «الجديد» فيها لا يستحق هذه الصفة حتى بمعنى إضافة مستجدّ يستقرّ في المشهد من دون أن يُدخل عليه أيّ طراز من التغيير الجدير بالجدّة، فكيف بالافتراق الملحوظ عن عقود طويلة من عمر دولة الاحتلال.
ألا يشكّل غياب بنيامين نتنياهو طارئاً أو جديداً، قد يُطرح سؤال أوّل. بمعنى تبديل الوجه، نعم، لا ريب في هذا، ولكن لا دلالة تمسّ الجوهر والعمق؛ إذْ لم يكذّب رأسا «تحالف التغيير»، نفتالي بينيت ويائير لابيد، أيّ خبر يمكن أن يكون مختلفاً بصدد الاختبار الأوّل والأبكر، أي «مسيرة الأعلام». فما الذي كان نتنياهو سيقوله تعليقاً على المسيرة، أو حتى على هتاف «الموت للعرب»؟ بل الأرجح أنّ قدراته العالية في الحذلقة والفذلكة كانت ستبعده، في قليل أو كثير، عن المسخرة في ثلاثية لابيد: امتداح المناسبة، والثناء على الشرطة الإسرائيلية، ولكن… استنكار الهتاف.
سؤال آخر، لعله الأجدى والأعلى دلالة من وجهة نظر هذه السطور، هو المآل/ الحضيض الذي انتهى إليه «حزب العمل»، واجهة «الصهيونية الاشتراكية»، وحزب تأسيس الكيان، وحاضنة كبار رجال ونساء الكيان ابتداء من دافيد بن غوريون وغولدا مائير وموشيه ديان وإسحق رابين وشعون بيريس وإيهود باراك؛ وانتهاء برئيسة الحزب الحالية ميراف ميخائيلي، الحائرة بمقاعد حزبها السبع في الكنيست الراهنة، أو حتى بحقيبة النقل التي تتولاها في حكومة بينيت.
والحال أنّ مصير هذا الحزب تحديداً، أكثر من مجموعة «ميريتس» داخل الحكومة الائتلافية، هو إعلان نعوة جديدة لخرافة عتيقة كانت تنسب إلى ذاتها هوية «اليسار» في دولة الاحتلال؛ فلم تعد تزعم، أو حتى تتجاسر على، ادعاء صبغة ضاعت بين أزرق وأبيض وأسود ورمادي وأخضر… وسلسلة الألوان الأخرى التي تصبغ الحكومة الراهنة، المتخلقة من كلّ شذر ومذر. هذا، إذن، انحدار جديد ضمن مسارات مأزق شامل أخذ الحزب يغرق فيه تدريجياً ومنهجياً، ولعلّ واحدة من مظاهر دركه الأسفل تجلت في أيار (مايو) 1977. يومها مُني الحزب بهزيمة تاريخية نقلت السلطة إلى الغريم التاريخي، «حزب الليكود»، للمرّة الأولى في تاريخ الكيان.
وإذا كان الفارق جلياً، على صعيد شخصي وسجلّ صهيوني، بين بينيت ومناحيم بيغن، فإنّ الأخير كتب نعوة «حزب العمل» أمام جموع حاشدة بُحّت حناجرها بالهتاف الهستيري: «عاش الملك! عاش الملك!»؛ والأوّل يعيد كتابة النعوة اليوم، من دون أن ينعم بتاج الملوك، بل بلعنات حاخامات وزعامات يمينية وجموع متدينة مهووسة عنصرية تهتف في القدس المحتلة: «الموت للعرب». في سنة 1977 كانت السياسة تغادر مبنى الكنيست لتضع مخيّلة التلمود على شفاه الجموع؛ وهي اليوم لا تُبقي من السياسة، ولا حتى الصهيونية وما قبلها وما بعدها، سوى هدف العجل الذهبي الأوحد، أي رأس نتنياهو!
وما كان لمحاق هذا «اليسار» الشائه تكويناً والمتشوّه ذاتياً، أن يُكمل سيرورات انحطاطه من دون أن يترافق صعود «اليمين» الموازي له، أي الليكود في شخص بيغن، مع نهوض الكاهانية من رماد العقائد التلمودية ذاتها التي صنعت بعض مفاصل التفكير الصهيوني، بل تحكمت في تلوّناته وسيّرتها أيضاً. ومائير كاهانا، الحاخام/ الدجّال الذي اضطرت المحكمة العليا الإسرائيلية ذاتها إلى رفض تسجيل قائمته على لوائح انتخابات الكنيست، سوف يقف خلف تعمية كلّ الألوان بين «يمين» و»يسار» في دولة الاحتلال، وسيتكفل بإدخال الأحزاب والجماعات ومجموعات الضغط الدينية/ الاستيطانية إلى قلب المعادلة الحزبية الإسرائيلية.
وهكذا فإنّ ظلال أهل «اليسار» من الصهاينة الأوائل ليست هي التي تستطيل اليوم خلف ميخائيلي، سواء في زعامة «العمل» أو حتى في وزارة النقل؛ بل ذلك الامتزاج الفريد بين بيغن وكاهانا والعجل الذهبي… إياه، فلا جديد هنا ولا جدد!
صبحي حديدي
القدس العربي