لا تبدو المفاهيم السياسية التقليدية التي تُستعمل على نطاق واسع، كاليمين واليسار، قابلةً للتطبيق في إيران. فالصحافة تقول إنّ موجات التوجّه السياسي في إيران تنتقل ما بين المحافظ والإصلاحي، ولا يبدو النظام الرسمي معترضاً على هاتين الموجتين، بل هو متناغم معهما تماماً… لا يمكن المقارنة بين مفاهيم اليسار واليمين مع ما تعترف به إيران الرسمية منذ ما أفرزته الانتخابات الإيرانية عام 1997، ومجيء رجل بجبة وعمامة يتخذ مظهر رجال الدين الأتقياء، اسمه محمد خاتمي، إلى كرسي الرئاسة الإيرانية، تحت عناوين إصلاحية عريضة. وقد حاول على مدى فترتين رئاسيتين تطبيق سياسةٍ يتقارب فيها مع دول مضادة لإيران عقائدياً كالسعودية، أو يتّخذ إجراءاتٍ تزيد المشاركة الشعبية في الداخل إلى جانب مواقف مهادنةٍ مع النساء. وبعد انتهاء فترة خاتمي، جاء محمود أحمدي نجاد، وهو رجل يرتدي بنطلوناً وقميصاً، ولا يبدو مهتماً بهندامه كما يجب، لكنّه جاء بعناوين متشدّدة، وفي عهده وصل التوتر مع الولايات المتحدة إلى أقصى حد، وشهد الشارع الإيراني احتجاجاتٍ طلابيةً قوبلت بالعنف… حكم كلّ من الرجلين فترتين انتخابيتين بمدة ثماني سنوات كاملة، لكن، عملياً، لا يستطيع المراقب الخارجي ملاحظة أي تغيير فعلي خلال عهدين تدعوهما السياسة الإيرانية بإصلاحي وآخر متشدّد.
بعد أحمدي نجاد، جاء حسن روحاني، وهو رجل دين إصلاحي أيضاً، واستمر فترتين. وكأنّ النظام الرسمي الإيراني قد قسم منصب الرئاسة على اثنين، مرة لإصلاحي، وأخرى لمتشدد، مع ثماني سنوات لكلّ منهما. واستمراراً لهذا، جاء الدور الآن للمرشح المنضوي تحت عناوين التشدّد إبراهيم رئيسي.
يعتمد النظام الإيراني نموذجاً محدّداً في تعامله مع الانتخابات الرئاسية، فهو يحافظ على إقامتها في موعدها، ويحشد لها وسائل إعلام تسوق العملية ذاتها، للإيحاء بالخطوة الديمقراطية التي يخطوها. وتظهر، بشكل حقيقي، التباينات بين المرشحين، ويسود التراشق بين ما هو متشدّد وما هو إصلاحي. لكنّ النظام الحريص على إخراج العملية كما يرغب، مع المحافظة على الوجه الديمقراطي، يقوم بعملية غربلة ابتدائية، فيقبل المرشّحين ويرفضهم بما تقتضيه مصلحته، وتساهم لجنة صيانة الدستور التي تملك حق القبول والرفض في المرحلة الأولى في عملية إخراج الرئيس. وقد يُعرف الرجل الذي سيتمتع بالمنصب بعد هذه العملية مباشرة. فقد رفضت اللجنة المذكورة سبعة مرشحين. وهذا الرفض يمكن أن يوجّه الناخب نحو نوعٍ معينٍ يرغب فيه النظام، لتصبّ الأصوات في مصلحته. بعد مرحلة التصفية التي تقوم بها لجنة صيانة الدستور، يسارع مرشّحون وصلت إليهم الرسائل المبطنة إلى الانسحاب، وهذا ما جرى فعلاً في هذا الدور. وبعد هذه العمليات الجراحية لإخراج الرئيس، لا يبقى إلّا إعلان المرغوب فيه، واعتباره فائزاً في الانتخابات. وهنا جاء إبراهيم رئيسي، كما كان متوقعاً، وبنسب إقبال يمكن العبث بها بسهولة، وإعطاء أرقام افتراضية لا تقدّم ولا تؤخر في إضفاء الشرعية على الرئيس الفائز.
لا يجري تصنيع السياسات والمواقف الإيرانية في مطبخ الرئيس، فهناك مطبخ آخر أرفع مستوى؛ مكتب المرشد الأعلى. هناك يجري إعداد كلّ ما يخص السياسة الإيرانية، وبمعزل عن تيارات التشدد والإصلاح، حيث يمكن البراغماتية أن تجد لها سبيلاً. يرسم المرشد ومكتبه الخطط طويلة المدى والمواقف النهائية، ولا يُترك للرئيس إلّا بعض الفتات التي يتسلى بها أمام الصحافة. ويمكن استقراء مستقبل السياسة الإيرانية حيال الاتفاقية النووية وبرنامج الصواريخ ومستقبل العلاقات مع الغرب والعقوبات الأميركية من خلال مواقف سابقة ومشابهة وظروف السياسة الراهنة، وليس بناءً على دراسة خاصة بشأن سلوك الرئيس الجديد، وثقافته وتوجهه السياسي، ومدى قربه من تيارات التشدد والإصلاح، فكلّ ما يمتّ إلى العملية الانتخابية وبريق الإعلام ودعائيته يندرج ضمن الحالة المتواصلة في تسويق النظام الإيراني، وإقناع العالم بأنّه يعتمد الديمقراطية طريقةً في الحكم.
فاطمة ياسين
العربي الجديد