لا فرصة للمفاجآت الرئاسية الإيرانية. كل شيء محسوب سلفاً. المرشد الأعلى علي خامنئي، صاحب السلطة المطلقة يحدد التوجه والاسم المختار. مجلس صيانة الدستور ينظّم السباق عبر غربلة المرشحين وتسمية المؤهلين منهم. والبقية ديكور انتخابي للمطلوب فوزه. وإذا حدثت مفاجآة كما في انتخابات عام 2009 حين أعطت الأكثرية أصواتها للمرشح المعتدل مير حسين موسوي، يتم تغيير النتائج لمصلحة منافسه محمود أحمدي نجاد، الذي بات اليوم مغضوباً عليه وممنوعاً من الترشح، ويوضع موسوي في الإقامة الجبرية، ويمارس “الباسيج” قمع “الحركة الخضراء” الاحتجاجية على “سرقة” الأصوات. وفي الانتخابات الأخيرة، كان المقرر فوزه معروفاً: المتشدد إبراهيم رئيسي، تلميذ خامنئي ورئيس القضاء. وهو على لائحة العقوبات في الاتحاد الأوروبي بسبب دوره في قمع “الحركة الخضراء” وفي “لجنة الموت” التي حكمت بالإعدام على خمسة آلاف “مناضل” عام 1988. وخاضع للعقوبات الأميركية بسبب دوره في الإعدامات. ومتهم من منظمة العفو الدولية بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”. الرئيس حسن روحاني والرئيس السابق محمد خاتمي لم يترددا في التحذير من أن الانتخابات ستكون “باهتة تولد ميتة”. ودعوات خامنئي والحرس الثوري الناس إلى الإقبال على التصويت لم تدفع إلى الصناديق سوى أقل نسبة تصويت في تاريخ الانتخابات الرئاسية.
“انتهت أيام التوازن”
ذلك أن خامنئي كان يمسك بالميزان ويقرر، بحسب ظروف المرحلة، التناوب بين رؤساء محافظين وإصلاحيين ومعتدلين. لكن أيام التوازن انتهت. فكل مراكز السلطة للمحافظين المتشددين. وما كان أمراً قليل الدلالات أن يرفض مجلس صيانة الدستور أهلية المرشح المعتدل مستشار خامنئي ورئيس مجلس النواب السابق علي لاريجاني. فيتحدث المرشد عن “ظلم وأخطاء” من دون أن يستخدم صلاحياته في تغيير القرار. فالمرحلة الآن، كما يرى الخبراء في شؤون إيران، هي مرحلة “الانقسام الأفقي” بعد مرحلة “الانقسام العمودي” بين المحافظين والإصلاحيين: انقسام بين مجموعة حاكمة متجانسة تمثل أقلية من رجال الدين وضباط الحرس الثوري المتشددين، وبين تيار عريض متعدد الروافد من المعارضين والناقمين والمضروبين بالتردي الاقتصادي. ومن باب الأحلام، مطالبة خامنئي من جانب ابنة الإمام الخميني زهراء مصطفوي وحفيده حسن والإصلاحي خاتمي بالحفاظ على “الجمهورية الإسلامية” ومنع تغييرها إلى “الحكم الإسلامي”. فليس لدى حركات الإسلام السياسي في الأساس شيء اسمه “المفهوم الجمهوري”. و”الديمقراطية كفر” عند الحركات الإرهابية والأشد تطرفاً مثل “داعش” و”القاعدة” و”بوكو حرام” وسواها. وما كانت ثورة ضد الشاه قامت بها قوى متعددة من أجل الديمقراطية والتقدم”، صارت ثورة للعودة إلى الماضي البعيد والمزاوجة بين الغيب والتكنولوجيا العسكرية.
اقرأ المزيد
واشنطن تشكك بنزاهة العملية الانتخابية وبينيت: فوز رئيسي “جرس إنذار أخير”
فوز رئيسي برئاسة إيران ينذر بمزيد من التشدد ضد مصالح واشنطن
رئيسي وخيارات الدولة العميقة
رئيس جديد لإيران لكن مستقبل البلاد غامض
“الشرعية الشعبية”
أكثر من ذلك، فإن طموح خامنئي يبدو إلى ما هو أبعد، كما جاء في “وثيقة النموذج الإسلامي الإيراني للتقدم: رؤية خلال خمسين عاماً”. ما يعترف به المرشد الأعلى هو أنه “لا وجود الآن للمجتمع الإسلامي في إيران”. وما يراه هو “نجاح في إيجاد الحركة الثورية وإقامة النظام الإسلامي، لكن الطريق صعب للوصول إلى مرحلة الحكومة الإسلامية التي تسبق المجتمع الإسلامي”. وهي مرحلة تحتاج إلى “خمسين عاماً لإقامة الحكومة الإسلامية”، إذ إن الأسس في نظرية ولاية الفقيه هي “تحقيق الخلافة الإلهية”.
والأساس، بكلام آخر، هو “الشرعية الإلهية”. أما “الشرعية الشعبية” عبر الانتخابات، فإنها ديكور لها. ونظام إيران ليس الوحيد الذي يضع الإقبال الشعبي على الانتخابات في إطار “توجيه صفعة للأعداء” بأكثر مما هو ممارسة سلمية لإعادة تكوين السلطة. فالسلطة ثابتة في النظام الإسلامي، ولا مبرر لإعادة تكوينها. ولم يكن الإقبال المنخفض على الانتخابات هذه المرة خارج التوقعات. لكن الأساس قبل الديكور. وممارسة السلطة تحتاج إلى خطوات مختلفة عن التصور النظري. وفي شهادة وزير الخارجية محمد جواد ظريف للتاريخ شكوى من “أولوية الميدان على الدبلوماسية”. فكل شيء في خدمة الحرس الثوري وأهدافه في نشر الثورة والنفوذ في المنطقة. وأقل دور هو للرئاسة.
والسؤال الذي يشغل كثيرين حالياً: أي تأثير للرئيس رئيسي في مفاوضات الملف النووي؟ والجواب كان معروفاً: الكلمة للمرشد الأعلى. لكن هناك كالعادة من يستعيد تجارب عدة في المنطقة وأوروبا وأميركا أكدت نظرية قوامها: المتشددون أقدر على المرونة من المعتدلين. والامتحان قريب.