هذه المرة لم تكن التسريبات الصحافية وراء تقارير تحدثت عن خطة انقلاب متكاملة قُدمت إلى الرئيس التونسي قيس سعيّد، بل جاء الإنذار بالخطر من الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل شخصياً، الذي لا تكتنف الشكوك مصداقية تصريحاته، بالإضافة إلى أن الرئاسة التونسية لم تصدر أي نفي أو تكذيب أو توضيح حتى الساعة. ففي لقاء تلفزيوني، وليس خلال أحاديث مجالس، صرح نور الدين الطبوبي أن سعيّد خلال اجتماع معه في قصر قرطاج مؤخراً اقترح العودة إلى دستور 1959 والتخلي بالتالي عن دستور 2014 الذي صادق عليه المجلس الوطني التأسيسي بأغلبية عريضة.
وهذا اقتراح مفاجئ تماماً من جانب الرئيس التونسي لأسباب عديدة، قد يكون أكثرها وضوحاً حقيقة أن سعيّد أدى القسم الرئاسي على هذا الدستور وتعهد أن يلتزم به ويسهر على حسن تطبيقه. فكيف يمكن له أن يعمل على إلغائه ليعود بالبلد عقوداً إلى الوراء، فلا تنطوي العودة على إحياء عهد الحبيب بورقيبة فقط بل كذلك سلسلة التعديلات التي أدخلها زين العابدين بن علي وكرسته رئيساً مدى الحياة تقريباً؟ وحتى بافتراض أن سعيّد يقترح إدخال تعديلات على دستور 1959، فلماذا لا تكون هذه التعديلات من نصيب دستور 2014 الحالي الذي ينتمي إلى تراث الثورة التونسية ويعد من أبرز مكتسباتها؟
مفاجئ كذلك أن يفكر الرئيس التونسي باللجوء إلى استبدال دستور بآخر ويرفض في الآن ذاته إمضاء المحكمة الدستورية، وهو رجل القانون الذي يعلم أن اعتماد أي دستور جديد يشترط وجود هذه المحكمة، التي عرقل إنشاءها مراراً وتكراراً استناداً إلى ذريعة تعجيزية. ورغم أنه ألمح قبل انتخابه إلى تحفظات على دستور 2014، فإن سعيّد أقسم اليمين عليه في نهاية المطاف، ولهذا فإن امتناعه عن إخراج المحكمة الدستورية إلى النور لا يخرق صلاحياته الرئاسية بموجب الدستور ذاته فقط، بل يمنعه استطراداً من دعوة الشعب التونسي إلى إحياء دستور قديم.
ولا يختلف الكثيرون حول جانب ثالث في اقتراح الرئيس التونسي، وهو أنه يمكن أن يصب الزيت على نيران الأزمات التي تزداد استفحالاً بين الرئاسة والحكومة من جهة، والبرلمان وقصر قرطاج من جهة ثانية، بالإضافة إلى أنها قد تتسبب في تغيير مواقف بعض حلفاء الرئيس الحاليين إلى درجة الابتعاد عنه والانضمام إلى تحالفات أخرى أو تأسيس تجمعات جديدة. كل هذا بالإضافة إلى إحراج اتحاد الشغل ذاته، الذي سبق أن طرح مبادرة للحوار ثم هدد بسحبها بسبب تعنت الأطراف وفي عدادهم الرئيس سعيّد نفسه.
ويصعب أخيراً استبعاد الاحتمال القائل بأن اقتراح سعيّد العودة إلى دستور 1959 إنما يستبطن الرغبة في إحياء نظام رئاسي يضع المزيد من السلطات في يد الرئيس، ومن الواضح أن أوضاع تونس الاقتصادية والصحية، قبل تلك السياسية والدستورية، ليست في حال تبرر هذه النقلة النوعية غير المحسوبة. والرئاسة التونسية يتوجب أن تكون الأجدر بإدارة دفة الحوار الوطني واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتوفير الحلول، وليس عرقلتها أو طرح مبادرات واقتراحات تتسبب في التعقيد والتأزيم لا تخدم الوئام الوطني.
القدس العربي