الأمر يتوقف على ما إذا كنا بصدد بلد يلعب دورا إيجابيا أو سلبيا فى العلاقات الاقتصادية الدولية، قادر على انتهاز فرص التصدير أم يقنع بفتح أبوابه أمام الواردات. توسيع السوق يمكن إذن أن يدفع معدل النمو إلى الارتفاع أو الانخفاض بحسب تشجيعه أو تثبيطه للدافع إلى الادخار والاستثمار.
إن من الممكن بالطبع أن يجذب توسيع السوق رءوس الأموال الأجنبية للاستثمار فى البلاد العربية، ولكن أثر ذلك على رفع معدلات النمو والتشغيل يمكن أن يكون ضعفا أو عشوائيا، إذا لم تتوافر لهذا البلد سياسة اقتصادية فعالة توجه الاستثمارات فى اتجاه دون غيره، وفقا لما تتطلبه المصلحة القومية، وليس وفقا لدوافع المستثمر الأجنبى.
لقد كان لتطبيق سياسات الانتاج، ابتداء من السبعينيات فى الدول العربية التى كانت أكثر انغلاقا فى الستينيات، كمصر وسوريا أثر سلبى على الهيكل الانتاجى، فازداد اعتماد الاقتصاد على تصدير المواد الأولية وعلى انتاج الخدمات، ولم يرتفع نصيب الصناعة التمويلية بدرجة ملموسة.
كان لفتح أبواب الهجرة إلى دول البترول أثر إيجابى على معدلات التشغيل ومن الممكن أن يعتبر هذا أثرا من آثار العولمة، ولكن الطلب على العمالة المهاجرة كان مرهونا بالظروف الاقتصادية فى الدول المستقبلة لها، وهذه الدول لم تتجه بدورها إلى رفع معدلات التطبيع فيها بدرجة ملموسة ومن ثم اتجه الجزء الأكبر من العمالة المهاجرة إلى الاشتغال فى قطاعات الخدمات التى يتوقف معدل نموها على ارتفاع أو انخفاض أسعار البترول، ومن ثم فما أن اتجهت أسعار البترول إلى الانخفاض ابتداء من منتصف الثمانينيات، حتى أخذ هذا الأثر الإيجابى للهجرة فى الأفول.
اقترن ارتفاع معدل العولمة كذلك ابتداء من سبعينيات القرن العشرين، بنمو ظاهرة “المجتمع الاستهلاكى” فى العالم ككل التى أضرت بمعدلات الإدخار فى البلاد العربية كما أضرت به فى غيرها واقترن كذلك باتجاه ملحوظ نحو زيادة درجة التفاوت فى الدخول فى معظم بلاد العالم، كما أكدت الاحصاءات المختلفة منذ ذلك الوقت، وكان آخرها ما ورد فى كتاب توماس بيكيتى الأخير رأس المال فى القرن الحادى والعشرين.
وهذه الظاهرة (أى اتساع الفجوة بين الدخول) وثيقة الصلة بظاهرة العولمة التى تتيح من الفرص لزيادة عوائد رأس المال، أكثر مما أتيح من الفرص لزيادة عوائد العمل، سواء فى الدول التى هاجر منها رأس المال أو الدول التى أتى اليها وهى العامرة بالمتبطلين الذين يقبلون العمل بأى أجر.
عندما دعا الاقتصادى الإنجليزى الشهير، جون مينارد كينز فى منتصف الثلاثينيات من القرن الماضى، إلى أن تلعب الدولة دورا أكبر فى مجموع الانفاق كعلاج لمشكلة البطالة، دعا فى نفس الوقت إلى فرض قيود على حركة التجارة ورءوس الأموال، وهى دعوة معاكسة تماما لاتجاه العولمة. وقد عبر كينز عن نظرته إلى العولمة بقوله:
إنى أتعاطف مع هؤلاء الذين يدعون إلى تخفيض الاعتماد الاقتصادى المتبادل بين الأمم إلى حده الأدنى، أكثر مما أتعاطف مع الداعين إلى زيادته إلى حده الأقصى. هناك أشياء يجب أن تكون عالمية كالأفكار والمعرفة والفنون والكرم فى معاملة الغرباء والسياحة.
ولكن دع السلع يجرى غزلها فى داخل الوطن كلما كان هذا ممكنا من دون ارهاق وأعباء تزيد عن الحد، وفوق كل شىء، فلتكن حركة الأموال فى الأساس محدودة بحدود الوطن إن هذا الموقف من العولمة يصعب أن نتصور أن يتخذه كثيرون من الاقتصاديين الآن، فى عصر أصبح النمو الاقتصادى فى العالم كله مرتبطا بتحرير التجارة وحركة رءوس الأموال، ولكنى أظن أن رجلا مثل كينز كان من الممكن جدا، حتى فى ظروف مثل الظروف الراهنة أن يميز السياسة الواجب اتباعها فى بلد عنها فى بلد آخر، بحسب مدى حاجة البلد للتصدى لمشكلات حالة كشيوع البطالة والفقر بل إن اقتصاديا آخر، أكثر حماسا بكثير من كينز لتوسيع السوق، ولحرية انتقال السلع ورءوس الأموال، وهو آرم سميث، أقر هو نفسه تدخل الدولة بفرض قيود على التجارة عندما تشتد فيها معاناة الناس من البطالة.
إن اتخاذ معظم الدول العربية موقف الترحيب بلا قيد أمام ظاهرة العولمة منذ السبعينيات، ووقوفها مكتوفة الأيدى أمام حرية رءوس الأموال والسلع فى التنقل من بلد لآخر، كان من بين العوائق التى عطلت تصحيح الهيكل الاقتصادى ونمط توزيع الدخل. ولكن العولمة لم تفتح الأبواب فقط أمام السلع ورءوس الأموال، ولكنها فتحتها أيضا (بما اقترنت به من ثورة المعلومات والاتصالات) أمام الأفكار وأنماط الاستهلاك، نعم كان لهذا الافتتاح آثاره الفكرية والنفسية الطيبة فى توسيع آفاق الشباب وتعريفه على مختلف الثقافات والحضارات، ولكن كان له أيضا آثاره السلبية على التنمية العربية – أن النهم الاستهلاكى، على النمو الذى نشهده الآن فى مختلف الأقطار العربية، لم يكن معروفا منذ خمسين عاما، أو كان على الأقل مقصورا على شريحة صغيرة جدا من المجتمعات العربية.
الآن أصبحت زيادة الاستهلاك هى الهدف المرجو لشرائح واسعة من المجتمع، والحاكم لمختلف أنماط السلوك والعلاقات الاجتماعية. لم يضر هذا فقط بمعدلات الازدهار والاستثمار، وإنما الحق أيضا ضررا بليغا بالشعور القومى، وبالولاء للأمة ككل، وبالتالى بالتعليق بفكرة الوحدة والاندماج العربى.
لقد تفتت المشروع القومى خلال الخمسين عاما الماضية إلى مشروعات فردية صغيرة، تتعلق بزيادة دخل وثروة الفرد أو الأسرة، وبالترقى والصعود على السلم الاجتماعى. ومع اقتران الانفتاح الاقتصادى بزيادة تغلغل الشركات الأجنبية العملاقة فى الاقتصادات العربية واتساع نفوذها، تحول الولاء للأمة أكثر فأكثر، إلى ولاء للشركة التى تمنح هذه الفرص لزيادة الدخل والترقى الاجتماعى. هذا هو ما فعلت العولمة بالتنمية فى البلاد العربية.
جلال أمين
الكلمات الدلالية :العولمة،التنمية العربية،الاقتصادات العربية،
مركز الاهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/341473.aspx