بيروت – خسر المواطن يحيى الآغا (57 عاما) عمله بحرفة النجارة، مطلع 2020 تزامنا مع اشتداد الأزمة الاقتصادية في لبنان، فبعد نحو 30 عاما من الكد والتعب لم يحصد ما يكفيه من الأموال “للأيام السوداء التي نعيشها”، وفق تعبيره للجزيرة نت.
يشكو الآغا معاناته “في بلد يُطرد فيه العمال من وظائفهم تعسفيا من دون تعويض أو ملاحقة قانونية”، فأصبح عاجزا عن توفير متطلبات عائلته المعيشية.
لكن ما يساعده على الصمود نسبيا حوالة مالية بقيمة 100 دولار، يتلقاها شهريا من ابنه المغترب بإحدى دول الخليج، وصارت توازي أكثر من مليون و750 ألف ليرة، بعد أن كانت توازي 150 ألفا وفق سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة) قبل خريف 2019، في حين راتبه من عمله كان يبلغ مليون و300 ألف ليرة.
ومنذ أن أصبح الآغا عاطلا عن العمل، ينتظر هذه الحوالة شهريا لتصريفها بالسوق السوداء، كي يغطي بها مستحقات عائلته، وبالكاد تكفيه في ظل فوضى الأسعار بالأسواق مما يدفعه للاستدانة أيضا، ويأسف لعدم رغبته في عودة ابنه من الاغتراب معللا ذلك بأنه “لا مستقبل له بيننا، ولا إمكانية لاستمرارنا بالعيش من دون تحويلاته المالية”.
هذا الرجل، واحد من مئات آلاف اللبنانيين الذين عصف بهم الانهيار، فصاروا إما عاطلين عن العمل، أو قُضمت قيمة رواتبهم وخسروا أكثر من 90% من قدرتهم الشرائية، فما كان لهم غير أبنائهم ومعارفهم ببلاد الاغتراب لمساندتهم -ولو بقدر يسير من العملات الصعبة- في محنتهم التاريخية، فهل تسهم تحويلات المغتربين في تخفيف وطأة الانهيار الكبير الذي يحاصر اللبنانيين؟
تحويلات المغتربين
تاريخيا، وتحديدا بعد انتهاء الحرب الأهلية (1989)، اتسعت موجات الهجرة من لبنان إلى مختلف بقاع العالم، فبرز ما تعرف بـ”أموال المغتربين”، التي ولدت نوعا من الاقتصاد الرديف، وأسهمت -ولو بشكل جزئي- في النهوض ودعم شبكة الأمان الاجتماعية خلال منعطفات مفصلية عاشتها البلاد.
وفي بلد صغير يبلغ عدد سكانه نحو 4 ملايين نسمة، يتخطى عدد المغتربين 1.3 مليون نسمة، بحسب الباحث محمد شمس الدين. وفي السنوات الأخيرة، سجلت موجات الهجرة تراجعا ملحوظا، رغم أنها أضحت حلم الشباب اللبنانيين الطامحين لبناء مستقبل مستقر بعيدا عن اضطرابات ومآسي بلدهم.
وفي عام 2019، بلغت أعداد المهاجرين نحو 66 ألفا، وتراجعت لنحو 17 ألف مهاجر في عام 2020، وسجلت في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2021 فقط، نحو 27 ألف مهاجر، وفق ما أفاد به شمس الدين الجزيرة نت.
ويُربط هذا التراجع بتداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي وما تبعها من انهيارات بمعظم الدول، كما يعتبر خبراء اقتصاديون أن تدهور قيمة الليرة أثرت سلبا على عمل اللبنانيين بالسوق الخارجي، وبالتالي تراجعت قدرتهم على التفاوض لتحسين شروط عملهم مع المؤسسات وأصحاب العمل.
وفي حين عززت التحويلات المالية سابقا رفاهية اللبنانيين ومولت استهلاكهم الداخلي، مع بلوغ الأزمة الاقتصادية ذروتها منذ منتصف 2019، شكلت تلك الأموال نوعا من الحصانة لعشرات آلاف الأسر التي انقلبت حياتها رأسا على عقب مع تضخم الأسعار، وشح المواد الأساسية من محروقات ودواء وغذاء، بعد أن أضحى أكثر من نصف سكان لبنان فقراء، من بينهم 25% دون خط الفقر المدقع، وفقا لتقديرات البنك الدولي، الذي صنف الأزمة اللبنانية ضمن أسوأ 3 أزمات عرفها العالم.
التحويلات بالأرقام
ما بين عامي 2017 و2019، بلغت تحويلات المغتربين رسميا نحو 8 مليارات دولار سنويا، وقد تصل إلى ضعف هذه القيمة لأن ثمة أموالا تأتي نقدا عبر المسافرين، خاصة من أفريقيا ودول الخليج، بحسب شمس الدين، وفي عام 2020، بلغت قيمة التحويلات الرسمية، نحو 7 مليارات دولار، وتجاوزت فعليا الـ12 مليار دولار.
ويركز المغتربون اللبنانيون على تحويل الأموال لعائلاتهم عبر المؤسسات غير المصرفية، والبالغة نحو 5 شركات بلبنان، خصوصا بعد اتخاذ المصارف التجارية لإجراءات استثنائية منذ خريف 2019، حيث حجزت ودائع اللبنانيين الدولارية، ومن بينها أيضا ودائع المغتربين.
ويشرح توفيق معوض، رئيس مجلس إدارة شركة تحويل الأموال “أو إم تي” (OMT) -التي تتلقى نحو 85% من التحويلات الخارجية إلى لبنان- وتيرة التحويلات الشهرية، ويؤكد أن نحو 110 ملايين دولار تصل شهريا عبر الشركة لنحو 170 ألف عائلة تستلمها بشكل نقدي.
ويبلغ المعدل الوسطي للحوالات، حسب معوض، نحو 550 دولارا، غير أن 50% منها، أصبحت قيمتها أقل من 300 دولار، ونحو 8% من التحويلات تبلغ قيمتها 50 دولارا يرسلها أصحاب المداخيل المحدودة بالخارج.
وأصبحت الـ50 دولارا تفوق الحد الأدنى للأجور بلبنان، البالغ 650 ألف ليرة (نحو 37 دولارا)، بعد أن قفز سعر صرف الدولار بالسوق السوداء (الذي يتحكم بقيمة العملة الوطنية) لـ18 ألف ليرة، وهو رقم قياسي جديد غير مسبوق مرشح للتصاعد، أدى إلى اتساع الفوضى ورقعة الاحتجاجات الشعبية في البلاد.
ويلفت معوض -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن التحويلات المالية تأتي من نحو 160 دولة يسكن فيها اللبنانيون، ويتلقاها المقيمون على مختلف الأراضي اللبنانية من الشمال حتى الجنوب، مع وجود أكثر من ألفي فرع لمكاتب شركات تحويل الأموال.
أما أكثر الدول التي يتلقى منها لبنان تحويلات مالية، فهي بالترتيب كما يلي: أميركا وكندا وأستراليا ثم دول الخليج ودول الاتحاد الأوروبي، وفقا لمعوض، مشيرا إلى أنه حين انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، ارتفعت معدلات الحوالات لنحو 140 ملايين دولار شهريا، دلالة على مستوى تضامن المغتربين مع ذويهم، لكن أين تُصرف هذه الواردات في بلد تنهار عملته بسبب شح الدولار؟
الواردات
في الواقع، يبدو أن الدولارات التي تدخل لبنان، صارت تصرف فقط على استهلاكات لأساسيات معيشية ضرورية، تشح يوما بعد آخر في الأسواق اللبنانية، وفق ما يشير إليه الأكاديمي والخبير الاقتصادي والمالي إيلي يشوعي للجزيرة نت.
يعتبر يشوعي أن هذه التحويلات لم تعد تشكل عاملا إيجابيا يساهم بالنهوض الاقتصادي، بموازاة النقص الحاد بالمواد الأساسية، كالمحروقات والأدوية والمستلزمات الطبية والمواد الغذائية.
ويعود الباحث إلى الأزمة المصرفية، باعتبارها أصل المشكلة، منذ أن تبخرت نحو 120 مليارات دولار من الودائع بالعملات الصعبة، “في عملية سطو ممنهجة على مدخرات اللبنانيين، وبقي منها أقل من 15 مليار دولار في صورة احتياطي إلزامي لدى المركزي، في حين أنها من حق المودعين”.
ويحمل يشوعي مسؤولية هذا الانهيار الكبير كلًا من حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة مع الحكومات المتعاقبة، ووزارة المالية على وجه أخص، باعتبار أن الوزارة كانت تضع الموازنات العامة، وترسم السياسات المالية، كما كان المركزي يرسم السياسة النقدية عبر تثبيت سعر صرف الليرة لعقود طويلة تحقيقا لفوائد عالية، فأسهمت هذه السياسات في تعطيل الاستثمار وتراكم الديون وانهيار رأس المال الوطني، وتقليص فرص العمل و”تهجير” شباب لبنان قسرا لأسباب اقتصادية.
وطوال السنوات الماضية، وفقا ليشوعي، استغل أركان السلطة أوضاعا اقتصادية مواتية لهم، واستفادوا من مصادر الأموال الخارجية، خصوصا أن تحويلات اللبنانيين كانت تفيض عمّا تحتاجه عائلاتهم، فيقومون بإيداعها في حسابتهم المصرفية للاستفادة من الفوائد المرتفعة.
ويقسم يشوعي الواردات الخارجية إلى ثلاثة مصادر:
الاستثمارات العربية والخليجية بلبنان التي كانت تقدر بـ5 مليارات دولار سنويا.
الاقتراض الخارجي الذي كانت تقوم به الحكومات المتعاقبة -من الدول العربية والغربية والجهات المانحة وعبر المؤتمرات الدولية- لتمويل مشاريع لم تحقق أهدافها بالنهوض الاقتصادي.
تحويلات المغتربين لعائلاتهم.
وبعد أن جفت موارد المصدرَين الأولَين، لم يبقَ غير تحويلات المغتربين، التي تصرف فقط على الاستهلاكات الفردية، في بلد يعيش نقصا حادا وندرة بكل شيء، “فيما لا يستطيع القيام من دون وفرة بالعملة الصعبة”، وفق يشوعي، في ظل استيراده لأكثر من 80% من حاجاته.
ويشير الباحث إلى أن عرض الدولار بالسوق بلغ أدنى مستوياته، مما أدى إلى تضخم الكتلة النقدية بالليرة، إذ تحتاج الدولة وحدها شهريا نحو 12 ألف مليار ليرة أجورًا لموظفيها بالقطاع الرسمي.
وقبل عام 2019، كانت الكتلة النقدية بالسوق تلامس نحو 6 تريليونات ليرة، لكنها تتجاوز اليوم 40 تريليون ليرة، في حين لا تتوافر احتياطات بالدولار تنمو بموازاتها.
ويرى يشوعي أن الحل العملي يكمن في استرداد اللبنانيين ودائعهم كاملة بالدولار، لخلق نوع من التوازن بالسوق النقدي، بعد أن دخل سعر صرف الدولار مرحلة الانفلات من أي سقف.
وقال إنه لا أمل في أي جهة داخلية قادرة على لجم الانهيار، وأن الخيار الوحيد يبقى في محاسبة دولية للطبقة الحاكمة لإنقاذ ما بقي من لبنان.
المصدر : الجزيرة