تجمع تقارير خبراء الاقتصاد وتحليلاتهم أن دول العالم مقبلة على جائحة الديون بعد التعافي من كورونا نتيجة إنفاق الحكومات المثقلة أصلا بالديون لأموال لا تمتلكها لدعم أنظمتها الصحية المتهالكة مما أدى إلى انخرام مواردها المالية ما يغذي من جهة أخرى الاضطرابات السياسية والاجتماعية لاسيما مع اضطرار الحكومات للاختيار ما بين مواصلة تقديم الدعم للفقراء أو سداد ديونها.
نيويورك – تطرح تحليلات الاقتصاديين أسئلة حول إذا كانت جائحة فايروس كورونا المستجد قد ألحقت بالعالم خسائر بشرية ومادية باهظة وأودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص، فإن تداعياتها سوف تستمر لسنوات طويلة قادمة وبخاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، حتى في الدول التي كانت أقل تضررا من آثارها الصحية.
وتطرح برامج التطعيم والإجراءات الاحترازية التي تم تطبيقها أسئلة حول فاعليتها في المساعدة على السيطرة النسبية على الجائحة، فإن المحللين والخبراء يؤكدون أن العديد من دول العالم وبخاصة الفقيرة منها ستواجه جائحة ربما تكون أشد خطورة من جائحة الفايروس بسبب تراكم الديون على تلك الدول.
وتقول سيدني ماكي محررة الشؤون الاقتصادية في تقرير نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء إن الجائحة تسببت في خسائر صحية واقتصادية فادحة في بعض أفقر دول العالم.
وأنفقت الحكومات المثقلة بالديون على امتداد العالم من أميركا اللاتينية إلى أفريقيا أموالًا لم تكن تمتلكها لدعم الأنظمة الصحية المتهالكة وتوفير شبكة أمان للمواطنين، مما أدى إلى تدهور مواردها المالية. وفي ظل مؤشرات على أن الضغوط المالية تؤجج الاضطرابات السياسية، تصاعدت الدعوات الدولية لتخفيف الضغط على تلك الدول التي تكافح لخدمة ديونها الخارجية.
وعن الدول الأشد عرضة للمخاطر المالية، تقول ماكي إن دول أميركا اللاتينية سجلت نحو ثلث إجمالي عدد الوفيات الناجمة عن فايروس كورونا المستجد على مستوى العالم حتى منتصف العام الحالي، في حين أنها تمثل فقط 8 في المئة من سكان العالم.
سيدني ماكي: الحكومات أنفقت أموالا لم تكن تمتلكها لدعم أنظمتها الصحية
في الوقت نفسه فإن دول المنطقة وبخاصة الأرجنتين والبرازيل والإكوادور والسورينام تواجه صعوبة في سداد ديونها في ظل الجائحة مما أثار المخاوف من تكرار الكارثة الاقتصادية التي شهدتها تلك الدول في ثمانينات القرن العشرين عندما توالى إفلاسها على طريقة “نظرية الدومينو” لتدخل مرحلة ركود اقتصادي طويلة.
وتضيف ماكي أن الأمر لا يختلف كثيرا في دول أفريقيا جنوب الصحراء حيث يمكن أن يعود حوالي 40 مليون شخص إلى دائرة الفقر بسبب الجائحة. وكانت زامبيا قد أعلنت في العام الماضي توقفها عن سداد ديونها. والآن تحاول إثيوبيا وتشاد الوفاء بالتزاماتها بصعوبة بالغة. وهناك أيضا العديد من الدول التي تزيد العائد على سنداتها الدولارية عن 10 في المئة وهو ما يشير إلى الصعوبات الهائلة التي تواجهها في توفير احتياجاتها التمويلية.
وفي ظل هذا الوضع القاتم، يصبح السؤ ال المطروح هو من الذي يمكنه محاولة مساعدة الدول المثقلة بالديون لتجاوز الكارثة؟ تقول ماكي إن الدول الأغنى بقيادة الولايات المتحدة ضخت في اقتصاداتها تريليونات الدولارات عبر برامج شراء السندات خلال الجائحة.
وقدمت هذه الدول جزءا يسيرا للغاية من تلك الأموال إلى الدول الأفقر من خلال مؤسسات التمويل الدولية. كما أوقفت دول مجموعة العشرين الكبرى مؤقتا تحصيل أقساط الديون الحكومية لدى الدول الفقيرة ثلاث مرات، ومددت إجراءات تخفيف عبء الديون حتى نهاية 2021 كما وافق صندوق النقد الدولي على منح أكثر من 80 دولة تمويلات طارئة.
ويستعد الصندوق لزيادة ما يعرف باحتياطيات حقوق السحب الخاصة بمقدار 650 مليار دولار حتى يتيح للدول الفقيرة الاقتراض بشروط مسيرة.
وترى ماكي أن أزمة ديون الدول الفقيرة تعتبر مشكلة ضخمة ويمكن أن تصبح أكبر. ففي حين كانت بعض الدول مثل الأرجنتين ولبنان وفنزويلا وزامبيا تعاني لسداد ديونها قبل الجائحة، جاءت إجراءات الإغلاق والقيود على الأنشطة الاقتصادية بسبب كورونا لتضيف المزيد من الدول إلى قائمة المتعثرين.
وفي أميركا اللاتينية انكمش الاقتصاد خلال العام الماضي بنسبة 7 في المئة وهو ما يزيد عن معدل الانكماش في أي منطقة أخرى من العالم. كما أن 22 مليون شخص إضافيين أصبحوا غير قادرين على توفير احتياجاتهم الأساسية في هذه الدول. وباعت حكومات الدول النامية سندات مقوّمة بالدولار أو باليورو خلال العام الماضي أكثر مما فعلت في أي عام سابق.
وتتوقع شركة فيرسك مابلكروفت للاستشارات وتقييم المخاطر أن ارتفاع أعباء الديون وتزايد السخط الشعبي نتيجة الأزمة الصحية يعنيان احتمال حدوث اضطرابات سياسية في 88 دولة على الأقل من بين 130 دولة تتابع الشركة أوضاعها.
دولة من بين 130 ستواجه ارتفاع أعباء الديون وتزايد السخط الشعبي نتيجة الأزمة الصحية
ويتعين على الحكومات الاحتفاظ بتوازن دقيق أثناء محاولة إخراج الاقتصاد من الحفرة العميقة التي سقط فيها. فالحكومات ستواجه الاختيار بين المحافظة على استمرار تدفق المساعدات المهمة للفقراء أو استمرار سداد ديونها.
وهناك اعتبارات سياسية أخرى تحكم قرارات الحكومات. ففي كولومبيا أدت محاولات زيادة الضرائب للحد من العجز المتضخم في الميزانية إلى موجة احتجاجات شعبية خلال مايو الماضي مما أدى إلى مقتل 20 شخصا على الأقل وتراجع الحكومة عن الفكرة.
كما شهدت العاصمة الاقتصادية لنيجيريا لاغوس احتجاجات ضد عنف الشرطة وتحولت إلى اضطرابات على مستوى البلاد بسبب ارتفاع معدل البطالة وارتفاع أسعار الغذاء مما أسفر عن مقتل 69 شخصا على الأقل.
وفي ما يتعلق بأكبر العقبات التي تواجه الدول الفقيرة في طريق الخروج من الأزمة ترى ماكي أنه في حين تتزايد الدعوات لتأجيل سداد ديون الدول الفقيرة مرة أخرى، قالت مجموعة العشرين إنها لن تمدد وقف تحصيل أقساط ديونها إلى ما بعد نهاية العام الحالي. كما أن صياغة أي اتفاقيات جديدة بشأن تخفيف أعباء الديون ستتوقف بدرجة كبيرة على الصين التي أصبحت أكبر دولة دائنة في العالم، حيث تستحوذ على حوالي 60 في المئة من ديون الدول الفقيرة، التي كان مقررا سدادها خلال 2020.
وتقول الصين إنها خففت أعباء الديون عن نحو 20 دولة في العالم، في حين أن مؤسسات القطاع الخاص الدائنة والمؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي لم تفعل ما يكفي للتخفيف عن الدول الفقيرة.
ويمكن أن يؤدي فشل الدول الفقيرة في سداد ديونها إلى حرمانها من الاقتراض من أسواق المال العالمية، وهو ما يزيد من صعوبة تعافي اقتصاداتها. وعلى سبيل المثال قالت إثيوبيا إنها لن تطلب من دائنيها من القطاع الخاص نفس الإعفاءات التي تحصل عليها من دول دائنة مثل فرنسا وإيطاليا حتى لا تثير خوف مجتمع المال العالمي.
العرب