وكأن الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي استبق انعقاد قمة بغداد في 27 حزيران/ يونيو الجاري بين زعماء مصر والأردن ورئيس الوزراء العراقي، للتأكيد للعرب بأن العراق منطقة نفوذ إيراني، وأن سماءه ومياهه وأرضه مسرحا لصراعاتهم مع الآخرين، ومصدرا من مصادر قوتهم وتجبرهم، وأن دماء أهله وقودا لمكانتهم المعطوبة، فوقف هاتفا ومذكّرا من طهران حين قال (أيها الشعب العراقي إن لحمنا لحمكم ودمنا دمكم). فهل ينجح العرب في استعادة رمحهم الذي ضيعوه في دروب السياسة التي لم يحسنوا تدبيرها؟ وهل بإمكانهم إعادة غلق مصراعي بوابتهم الشرقية، فيوقفوا الرياح الصفراء المقبلة من طهران؟
يقينا أن أي لقاء قمة عربي ـ عربي وعلى أي مستوى كان، ثنائياً أو ثلاثياً أو أكثر من ذلك، سوف يشكل إنجازاً تحتاجه الأمة في الوقت الراهن، لكن ما يجعل هذه اللقاءات والقمم جديرة بالاهتمام والاحترام وذات جدوى، هو أن تكون مدفوعة بإرادة عربية، وليس بإرادات قوى دولية وأجندات خارجية.
لقد امتنع العرب عن الانفتاح على العراق منذ عام 1990 بإرادة أمريكية غربية. وساهموا في الغزو وفق تلك الإرادات أيضا، لكنهم لم يحصدوا من غزو واحتلال العراق غير التهديد لأمنهم، بعد أن اجتاحت إيران البلاد، وتحركت حدودها إلى حدودهم، وتحكمت به أذرعهم، وباتت صواريخها تنطلق من أرضه عليهم. ومع ذلك لم يسمح الأمريكيون والغرب لهم بالانفتاح على العراق، إلا عندما وجدوا أن هذه الأرض باتت منصة للانطلاق، ولتوسيع النفوذ الإيراني في المنطقة، وأن أذرع الولي الفقيه امتدت فأحاطت أكثر بلبنان وسوريا واليمن، عندها بات الحديث عن فصل الساحة العراقية عن الساحة الإيرانية هو موضوع الساعة لدى الإدارة الأمريكية، ولأن العراق عربي، ومجتمعه ومصيره وأمنه الوطني كله جزء من مجتمع ومصير وأمن الأمة، ولأن شعبه هو من خرج هاتفا بسقوط الديكتاتور الأعلى الإيراني، وهو من أحرق السفارة والقنصليات التي تمثله في بغداد والمحافظات، ولعن أحزابه وميليشياته وأذرعه وأشخاصه، أيقنت الدول الكبرى أن الانفتاح العربي عليه أصبح ضرورة، فأوعزت بذلك. فهل يمكن استثمار هذا الانفتاح ليصب في صالح العراق والأمة، قفزا على الإرادات الدولية؟
نعم يمكن ذلك شرط أن تكون هنالك استراتيجية عربية بهذا الشأن، ولكي تكون هذه الاستراتيجية المصممة لاستعادة العراق ناجحة، لا بد أن تكون هنالك سيطرة كامله على مكونات النجاح، أي مستوى النجاح وعوامله وعناصره، يجب أن تكون تحت يد الزعماء العرب، وليس تصميم استراتيجية عربية لإنقاذ العراق عوامل نجاحها في يد الولايات المتحدة والغرب، ثم يجلس الزعماء العرب متمنين على القوى الكبرى أن تتصرف كما يريدون، فالنجاح لا يمكن تمنيه، بل يجب العمل على فرضه، وشروط النجاح في العراق هو استمرارية الزخم العربي، خاصة من قبل الدول ذات الإمكانيات الاقتصادية الكبرى كالسعودية مثلا، ودول الخليج العربي الأخرى، وكذلك مصر بما تملكه من قوة مادية ومعنوية على المسرح العربي والدولي. الشرط الثاني هو قدرة الدول العربية على تحويل نتائج اللقاءات إلى خطط عمل واقعية. والشرط الثالث هو أن يلمس المواطن العراقي قابلية الدول العربية على إنتاج مشروع عربي قادر على منافسة المشروع الإيراني في المنطقة. وهنا لا بد من أن يعي العرب الواقع العراقي، في ظل الهيمنة الإيرانية، كي يكون التعامل معه في ضوء التحديات القائمة، فقد تغلغلت إيران في كل مجالات الحياة العراقية، وباتت لها أحزاب وميليشيات وحكومة موازية، وورش تفكير وفضائيات ومواقع إلكترونية كلها تستخدم سياسة تسقيط العروبة، والاستخفاف بالشخصيات التاريخية والرموز والعناوين الاجتماعية، وصولا إلى التلاعب بالمناهج الدراسية، وإقصاء الحقائق الجغرافية، والنيل من القيم الوطنية والعقائدية التي تربى عليها المجتمع العراقي، لكن هل تملك قمة العراق ومصر والأردن البدء بمشروع استراتيجي، من دون توافقات أكبر مع دول ذات نفوذ في المنطقة والعالم؟
ما يخشى منه أن زعماء القمة ليس لهم الخيار في ما يحصل في المنطقة، إنما الإرادة الحقيقية هي لدى واشنطن التي تقود هذا الحراك
يقينا أن هذه القمة تأتي في ظرف استثنائي، ولا يمكن فصلها عن التحولات الجارية في الإقليم والعالم. فهي تتحدث عن ربط مصر بالعراق، ودور أردني يجب أن يكون أساسياً في هذه المعادلة، وعلى الرغم من الحديث الاقتصادي الذي سمعناه من الأطراف المشاركة فيها منذ البداية وحتى اليوم، فإنه يجب القول إن كل ما سيؤسس للاقتصاد يجب أن يبدأ بالسياسة. والمشهد السياسي الدولي تقول قراءته، إن الزعماء الذي اجتمعوا في بغداد يعرفون جيدا سياسة واشنطن في المنطقة، التي تبدأ بفكرة الحرب التجارية على الصين، وتقنين النفوذ الإيراني في المنطقة، وبالتالي عندما نتحدث عن هذه النقاط يجب أن يكون التحرك ضمن هذا التوجه للحصول على الغطاء الدولي، أو الغطاء الأكبر الذي يسمح لاحقا لمثل هذا الانفتاح أو التعاون الاقتصادي أن يستمر، ما يخشى منه أن زعماء القمة ليس لهم الخيار في ما يحصل في المنطقة، إنما الارادة الحقيقية في ذلك هي لدى واشنطن التي تقود هذا الحراك، ومع ذلك يبدو أن هنالك مشاريع عدة لفكرة إحداث نوع من التوازن العربي في الداخل العراقي، بحيث لا تبقى إيران هي المسيطر في المشهد العراقي، والاكثر نفوذاً فيه. هذا التوازن يجب أن يكون عبر دولة وازنة كبيرة مثل مصر، ويقع الأردن استراتيجيا في المنتصف، ليكون نقطة وصل بين الطرفين. وهذا كله يمكن تفسيره ضمن السياسة الكبرى، لكن يجب أن تكون للعرب رؤيتهم الخاصة في العراق ضمن منظومة الأمن القومي العربي، وإذا كانت في السياسة دروب قذرة وموحلة وموحشة، فإن العرب مطالبون بأن لا يخوضوا فيها مع شعب العراق مرة ثانية، لقد عاقبوا أهل العراق وقاطعوهم وشاركوا في تدمير بلدهم، بسبب خلافاتهم الشخصية، وبغضهم للنظام السياسي الذي كان قائما قبل الغزو والاحتلال، وعليهم اليوم أن لا يجاملوا النظام السياسي الحالي، الذي يقتل شعبه يوميا، فالأنظمة تأتي وتذهب لكن الشعوب هي الباقية إلى الأبد. إن المراهنة على الشعوب هي الطريق الوحيد لتحويل النوايا الطيبة إلى وقائع على الأرض، والخطط المرسومة في الأذهان وعلى الورق إلى إنجازات شاخصة، ومعضلة الوطن العربي أنه مقبرة للتحالفات العربية، لأنها لا تستند إلى مراهنة قائمة على شعب هذه المنطقة. كم من تحالفات ثنائية وثلاثية ورباعية ومشاريع وحدوية، ومشاريع تعاون وتكامل اقتصادي ولدت على هذه الأرض، لكنها ذهبت أدراج الرياح، وتحولت إلى حالة عداء مستحكم، بسبب خلافات سياسية، بينما يذهب الكثير من دول العالم اليوم إلى إبعاد التعاونات الاقتصادية عن الخلافات السياسية.
يمكن القول إن التنسيق العراقي الأردني المصري جدير بالنظر، وأكثر ما يتمناه العراقيون اليوم هو أن يعود العرب جميعا إليهم، فقد كان العراق كله وطنا للعرب، فليكن العرب اليوم كلهم في العراق، فالعلاقة بين الظفر واللحم لا يمكن أن يتبرأ منها أحد.
مثنى عبدالله
القدس العربي