قديما نُصِح الناس بذكر محاسن الموتى. لكن ماذا لو لم يكن للميّت محاسن؟ وارد جدا. الدنيا تضيق بالأشرار والوحوش البشرية. ثم، هل يوجد إنسان لم يترك حسنة في حياته مهما صغرت؟ وارد أيضا: دونالد رامسفيلد.
توفي وزير الدفاع الأمريكي السابق الأسبوع الماضي عن عمر ناهز الثامنة والثمانين بعد معاناة مع ورم نخاعي. ربما ترك رامسفيلد أثرا طيبا بين أولاده وأحفاده وأصدقائه والمستفيدين منه ومن ثروته ومناصبه السياسية ومكانته الاجتماعية في أمريكا. من الطبيعي أن يحزنوا عليه وينشروا المرثيات.
لكن يصعب أن يكون في العالم، وخصوصا بين الأمريكيين وسكان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مَن سيذكره بخير أو يحزن على رحيله.
هذا الرجل أجرم في حق التاريخ والجغرافيا والسياسة. أجرم في حق البشر. كان يجب أن يموت في زنزانة بأحد سجون مجرمي الحروب في لاهاي. كان يجب أن يموت في بغداد أو الموصل، في كابل أو باغرام ربما. لكن لأن العالم قائم على الظلم والطغيان وتجبّر الأقوياء، مات ميتة هادئة في بيته بين ذويه كالملاك الطاهر.
من الظلم أن يموت رجل على كاهله أرواح ملايين العراقيين والأفغان ومعاناتهم وخراب حياتهم وبلدانهم، وكل هذا الإرهاب والعنف ووديان الدماء المسفوكة في كل مكان، هكذا كأنه لم يفعل شيئا. من الظلم أن يرضى الأمريكيون بموتٍ دون محاسبة لمن تسبب في مقتل قرابة 5 آلاف من أبنائهم، أغلبهم لم يسمعوا بالعراق وأفغانستان في حياتهم ويعجزون عن تحديد موقعهما في خريطة العالم.
قرأت في الصحافة الأمريكية والعالمية بحثا عن أثر طيب يُذكر لرامسفيلد. عدا المجاملات التقليدية التي تقال في كل ميّت عندما يشيع خبر وفاته، لم أجد إلا كونه تميّز بأنه أصغر وزير دفاع أمريكي عمرًا (1975/1977 تحت رئاسة جيرالد فورد) ثم أكبر وزير دفاع (2001/2006 تحت رئاسة جورج بوش الإبن). ولم أجد إلا أنه في لحظة تعرّض مبنى البنتاغون لهجوم الحادي عشر من سبتمبر شوهد بين الموظفين الناجين يحاول المشاركة في إغاثة المصابين.
تقلّد رامسفيلد مناصب عليا عديدة في المؤسسة الحاكمة بواشنطن. لم يترك في أيٍّ منها أثرا يُذكر، لكن حصيلة عمله وزيرا للدفاع بين 2001 و2006 هي التي ستلاحقه لعناتها إلى القبر، لأنه مارس جزءا كبير من تلك الوظيفة بالكذب وعلى الكذب.
من الظلم أن يرضى الأمريكيون بموتٍ دون محاسبة لمن تسبب في مقتل قرابة 5 آلاف من أبنائهم، أغلبهم لم يسمعوا بالعراق وأفغانستان في حياتهم
هو أحد أكبر مروِّجي أكذوبة أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وفرية أن نظام صدام حسين متحالف مع تنظيم القاعدة! هو أيضا صاحب مقولة، بناءً على الكذبة السابقة، أن تنحية صدام (ليتها كانت مجرد تنحية!) جعلت العالم أكثر استقرارا. يكفي الإدراك أنه، ومساعده دوغلاس فيث، بنيا خطة وردية لغزو العراق على نصائح أحمد الجلبي، ليجعل بدن الإنسان يقشعر.
بعد سنوات من تقاعده ظل محافظا على حالة الإنكار التي اختارها أسلوبا للدفاع عن إرثه الإجرامي، ومتمسكا بهذه الكذبة في مذكراته (2011) «المعلوم والمجهول» التي تبرّع بعائداتها لعائلات الجنود الأمريكيين الذين قاتلوا في العراق (باعتبار أن العراق هو الذي احتل أمريكا وجنود رامسفيلد هم الضحايا!!). في مذكراته استمات رامسفيلد في الدفاع عن حصيلته في العراق ومتمسكا بأن ما أقدم عليه هو عين الصواب! هل يوجد إنسان سويّ يصدّق هذا الجنون؟ حتى رامسفيلد في أعماقه لا يمكن أنه يؤمن بدجل كهذا.
في مقالة «النعي» التي نشرها في الغارديان البريطانية، قال هارولد جاكسن أن رامسفيلد، كرجل أعمال أولاووزير دفاع ثانيا، تحمس لغزو العراق مدفوعا بأفكاره العسكرية ومصالحه المادية (الصفقات المرافقة للغزو وما بعده). وفي نيويورك تايمز قال روبرت ماك فيدن إن رامسفيلد نجح في جعل نفسه منبوذا شعبيا وبين زملائه بأسلوبه المتعجرف، وإن إخفاقاته في وزاراته الثانية قضت على إنجازات الأولى في السبعينيات. وقال عنه كيم سينغوبتا في الإندبندنت البريطانية إنه وقع بشدة تحت سحر المحافظين الجدد المتعطشين للحرب.
كان رامسفيلد لا يزال مؤثرا وقائدا عندما خرج من تحت الأرض إرهابيو تنظيم القاعدة في العراق بعد أن كان البلد الوحيد الذي لا إرهاب فيه ولم يصدّر إرهابيا واحدا للعالم، ليذيقوا قواته والعراقيين مرارة العيش. ومن المؤكد أنه كان لا زال يحتفظ بقواه الذهنية، وشاهدَ، عندما زحف وحوش تنظيم الدولة على العراق ليحتلوا نصف أراضيه في ساعات. إلى اليوم يتحمل هذا الرجل وزر هذا الإرهاب الذي يطبق على المنطقة، وكل دم يُسفك، وكل دمعة تسيل وكل أشكال الخراب والفساد والانهيار التي تنخر العراق وكذلك أفغانستان. بعد قرابة عقدين تغادر القوات الأمريكية العراق وأفغانستان وهما أسوأ حالا مما كانتا قبل الغزو. الأطراف الوحيدة المستفيدة من هذا الدمار الهائل هي شركات الحروب ولوردات القتل ورجال الأعمال وغيرهم من طفيليين ومصاصي دماء عراقيين وأفغان جمعوا ثروات لا حصر لها من وراء انهيار البلدين.
في الأخير، الأمانة تستوجب القول إن رامسفيلد ليس وحده. هناك قائمة ممَن أجرموا في حق العراق مثله ومن الظلم والمعيب أن يفلتوا من محاكمة دولية عادلة.. جورج دبليو بوش، عصابة المحافظين الجدد الذين خططوا لغزو العراق حتى قبل هجوم الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، واتخذوا قرارهم بعد ساعة من سقوط البرجين. بول وولفوفيتس، ريتشارد بيرل، ديك تشيني، بول بريمر، كوندوليزا رايس، دوغلاس فيث، إيلويت أبراهمز وغيرهم. هناك أيضا رئيس وزراء بريطانيا السابق، الأفاك توني بلير. نظيره الأسترالي جون هاورد، وشريكهما البائس، الإسباني خوسيه ماريا أثنار. يجب أن يضاف للقائمة قادة عرب وعراقيون وأفغان، لولاهم لَكانت جرائم رامسفيلد وبقية العصابة عصيّة بعض الشيء على التنفيذ في كل من العراق وأفغانستان، ولولاهم لكان العراق اليوم أفضل مهما ساءت أحواله.
توفيق رباحي
القدس العربي