لم تأت فضائح الفساد الكبير الذي كُشف النقاب عنه في الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” من فراغ. فهي لم تفاجئ من يتجاوز اهتمامهم باللعبة الأكثر شعبية في العالم أخبار مسابقاتها، ومبارياتها، ونجومها. فالمعنيون بما هو أكثر من هذه الأخبار كانوا يعرفون أن ما كشف عنه عشية الدورة الأخيرة لانتخاب رئيس “الفيفا” في مارس 2015 ليس هو كل الفساد الذي تراكم في هذا الاتحاد علي مدي فترة طويلة من الزمن.
كما لم يكن مدهشا أن يفوز جوزيف بلاتر في انتخابات رئاسة “الفيفا” التي أجريت بعد أيام قليلة علي كشف فضائح الفساد التي يرجح تورطه هو فيها شخصيا، بمعاونة “فريق الفساد الرياضي العالمي”، وبدعم الاتحادات المحلية المستفيدة من هذا الفساد، وشركات كبري تنامت مصالحها في ظل تحول اللعبة من رياضة إلي “بزنس” عالمي، خاصة بعد أن فتحت السياسات الليبرالية الجديدة “النيوليبرالية” آفاقا واسعة أمام هذه المصالح.
ولم يكن مستغربا كذلك أن يعلن بلاتر استقالته بعد أيام علي انتخابه لسببين، أولهما أن استمراره صار صعبا علي سطح كان يخفي تحته فسادا واسعا بعد أن ظهر بعض ما كان مخفيا، وفي ظل توقع الكشف عن جوانب أخري فيه. أما السبب الآخر، فهو تفضيله أن يغادر موقعه بعد أن يحقق صورة انتصار في انتخابات احترف إدارتها، والفوز فيها، بدلا من أن ينتظر ويخرج مهزوما.
لم يكن هذا كله مفاجئا أو مدهشا، لأن كرة القدم لم تخل من فساد علي مدي تاريخها، نتيجة ارتباطها منذ بدايتها تقريبا بالنظام الرأسمالي العالمي، وتأثرها بتطوراته في المراحل التي مر بها، منذ المرحلة الاستعمارية الكولونيالية وحتي مرحلته الراهنة “النيوليبرالية”.
ولذلك، اقترنت اقتصادات كرة القدم في مجملها بتفاعلات النظام الرأسمالي العالمي وتغيرها من مرحلة إلي أخري. وينطبق ذلك علي الاتحاد الدولي الذي أنشئ لتنظيم مسابقاتها، وفي مقدمتها كأس العالم “المونديال”. كما ينطبق علي كثير من الاتحادات المحلية في هذا البلد أو ذاك، وعلي أندية رياضية برزت من خلال تفوق فرق كرة القدم فيها، واستمدت مكانتها من إنجازات هذه الفرق.
ويشمل ذلك الفساد في مختلف جوانب اقتصادات كرة القدم، التي أصبحت بمنزلة “بزنس” عالمي واسع النطاق. وقد بلغ هذا الفساد أعلي ذروة له في ظل هيمنة التوجهات “النيوليبرالية” علي النظام الرأسمالي العالمي في العقود الثلاثة الأخيرة.
أولا- كرة القدم .. والرأسمالية العالمية:
من أهم النظريات في مجال العلاقة بين كرة القدم والتطور الذي حدث في العالم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نظرية البروفيسور بيتر اليجي، أستاذ التاريخ في جامعة ميتشجان الأمريكية. تقول هذه النظرية، ضمن ما تطرحه، إن الأوروبيين استخدموا لعبة كرة القدم وسيلة لـ “تمدين” الشعوب التي استعمروها وتعليمها القيم الرأسمالية، و”فضائل المدنية الغربية” في إطار الفكرة التي استخدمت لتبرير الاستعمار بوجه عام. وحاول الخبير الاقتصادي فرانكلين فور بعد ذلك الربط بين كرة القدم والعولمة في كتابه الصادر عام 2006 “كيف تفسر كرة القدم العالم نظرية غير مرجحة Unlikely للعولمة”. فقد ربط بين كرة القدم، والتجارة العالمية، وتصدير ثقافة الغرب إلي دول آسيا، وإفريقيا، وأمريكا الجنوبية.
وربما يكون هناك أساس بالفعل لهذا الربط، خاصة في مجال الأداء في كرة القدم، وفي النشاط الاقتصادي الحديث. فالأداء الجيد في هذه اللعبة يحتاج إلي التدريب، وما هذا التدريب إلا إحدي وسائل تحسين الأداء من أجل الارتقاء بالاقتصاد في النظام الرأسمالي. كما يقتضي الأداء الجيد في كرة القدم انضباطا، ونظاما، وتنسيقا بين اللاعبين. وهذه كلها، بدورها، من مستلزمات نجاح النشاط الاقتصادي الحر، بل يعدّها البعض من مقومات الصناعة الحديثة.
ولما كانت الفترة التاريخية التي حدث فيها ذلك هي نفسها التي شهدت ما سماه الزعيم الروسي الماركسي فلاديمير لينين دخول الرأسمالية مرحلة الإمبريالية، فلربما يجوز القول إن كرة القدم كانت أحد تجليات هذا التحول. فعلي سبيل المثال، تنافست شركات إنجليزية كبيرة في إنشاء فرق لكرة القدم في المستعمرات البريطانية، وشجعتها علي التنافس فيما بينها، وتنظيم مباريات.
ويعني ذلك أن الاستعمار استخدم كرة القدم أداة للهيمنة، ووسيلة لتوجيه الشعوب التي خضعت للاحتلال، وإعادة تأهيلها. فإلي جانب أن المستعمرين رأوا في كرة القدم عاملا من عوامل “تمدين” هذه الشعوب، وبالتالي تحقيق “رسالة الرجل الأبيض”، فقد افترضوا أن هذه اللعبة تساعدهم في تنفيس الاحتقان، وتسهم في ترويج السلع المرتبطة بها. كما أن إنشاء فرق للكرة علي خطوط الانتماء العرقي، والديني، والقبائلي، والعشائري في بعض البلاد المنقسمة اجتماعيا، خصوصا في إفريقيا، قد يدل علي تعمد إذكاء الهويات الأولية، أو التقليدية لحجز تطور الهوية الوطنية.
وهكذا، استخدمت كرة القدم وسيلة لتحقيق أحد هدفين تفصلهما مسافة كبيرة، ولكن كلا منهما أسهم بمقدار في دعم الهيمنة الاستعمارية أينما وجد. وكان الهدف الأول، في هذا السياق، هو السعي إلي تنظيم الصراعات العرقية، والدينية، والعشائرية حسب ما تيسر من خلال تأسيس فرق، وفق هذه الانتماءات الأولية. أما الهدف الآخر، فهو محاولة تصريف الانفعالات والاحتقانات التي يمكن أن يؤدي تراكمها إلي انتفاضات أو ثورات وطنية ضد هذا الاستعمار وسلطته.
وبغض النظر عن مدي فاعلية هذا النوع من التوظيف الشرير للعبة التي أصبحت هي الأولي عالميا، فهناك ما يدل علي أن استخدامها لتصريف انفعالات متنوعة أصبح سمة ملازمة لها حتي اليوم. فالانغماس في مؤازرة فريق كرة قدم بعينه، والتفاعل معه في المسابقات التي يخوضها، وصولا إلي الذروة، يساعدان في تصريف انفعالات شتي. وإذا كان التعصب لهذا الفريق يعبر عن حالة عصبية، فهو قد يسهم في امتصاصها أو تفريغها بدلا من أن تتجه وجهة أخري. وعندما يحدث ذلك لدي مساندة فريق يلعب باسم هذه الدولة أو تلك، فهو قد يكون تعويضا عن طموحات وطنية محبطة أو غير متحققة. والمعركة المصرية – الجزائرية، التي نشبت خلال تصفيات التأهل إلي نهائي “المونديال” الذي استضافته جنوب إفريقيا عام 2010، ليست بعيدة. فقد بدا الأمر وكأن الجمهورين اللذين شجعا فريقي المنتخبين الوطنيين في حال حرب، وليسا في منافسة كروية.
وإذا صح أن بعض رواد الاستعمار الغربي أدركوا مبكرا جدا هذا الميل المتضمن في لعبة كرة القدم إلي التعصب الذي قد يبلغ مبلغ التطرف والبغضاء، فهذا يدل علي مدي ما تمتعوا به من عبقرية شريرة.
غير أن عبقريتهم هذه لم تلبث أن انقلبت عليهم حين استخدمت بعض الشعوب التي خضعت لهيمنتهم اللعبة نفسها ضمن أدوات نضالها الوطني الذي استهدف التحرر من الاستعمار. فصارت تلك القطعة المطاطية المكورة والمنفوخة وسيلة ثانوية من وسائل بناء وتدعيم الهوية الوطنية، وسبيلا من سبل مقاومة الاستعمار. ومن أكثر الأمثلة دلالة علي ذلك قيام جبهة التحرير الوطني الجزائرية بتأسيس فريق لكرة القدم يحمل اسم الوطن وعلمه، بالرغم من أن معظم لاعبيه كانوا يلعبون في الفرق الفرنسية. فقد كان الفرنسيون هم الذين وضعوا تقليد استعانة فرق كرة القدم في كثير من الدول الأوروبية بلاعبين أفارقة صار بعضهم الآن أركانا، ليس فقط في فرق تنتمي إلي نواد رياضية، ولكن أيضا في فرق بعض المنتخبات الوطنية في بلاد اكتسبوا جنسيتها.
وكان لجوء جبهة التحرير في الجزائر إلي استخدام كرة القدم أداة للنضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي أحد عوامل نجاحها، لأن الفريق الذي شكلته نشر اسمها وعلمها، ليس فقط في أنحاء الوطن الذي كان محتلا، ولكن أيضا في فرنسا، وعلي المستوي الدولي. وكانت هذه بداية انتباه مثقفين، وسياسيين، ومواطنين فرنسيين إلي الإجرام الذي مارسته حكوماتهم المتوالية في الجزائر.
وفي مصر أيضا، لعبت كرة القدم دورا وطنيا في مواجهة الاستعمار البريطاني في وقت مبكر مقارنة بالجزائر، وعبر أندية رياضية أسست فرقا لهذه اللعبة، وفي مقدمتها النادي الأهلي. كما كان لنادي الزمالك (المختلط في ذلك الوقت) دور أقل في هذا المجال بخلاف ما يقال عن أنه كان خاضعا للإنجليز المستعمرين حينئذ.
فقد كان لكل من الناديين العريقين، وأندية مصرية أخري، دوره في دعم النضال الوطني، مثلهما مثل بعض الأندية في بعض المستعمرات التي تحولت كرة القدم فيها إلي أداة من أدوات التحرر الوطني، دون أن تفقد طابعها المتصل بالنظام الرأسمالي. وإذا كان ارتباط كرة القدم بهذا النظام قد بدا موضع شك حين ازدهرت في بعض دول المنظومة الاشتراكية في الربع الثالث من القرن الماضي، مثل المجر وتشيكوسلوفاكيا، فقد صار واضحا الآن أكثر من أي وقت مضي عبر عمليات شتي، في مقدمتها صفقات بيع وشراء اللاعبين داخل بلادهم وعبر العالم.
وتخلق هذه الصفقات الآن تغيرا اجتماعيا هائلا، وغير طبيعي في بعض المجتمعات، حيث ينتقل لاعبون من أسفل قاع المجتمع إلي إحدي أعلي قممه الاجتماعية في غضون سنوات قليلة. خذ مثلا “ساحر الكرة” في بداية الألفية الثالثة ليونيل ميسي، الذي يتطلع مئات الملايين في العالم إلي ما سيفعله في أية مباراة يخوضها، سواء مع منتخب الأرجنتين الوطني، أو مع فريق نادي برشلونة الإسباني الذي صار هو نجمه الأول. فهذا “المالتي مليونير” هو ابن لأب كان عاملا في أحد المصانع، وأم كانت عاملة نظافة. وهو ليس فريدا في هذه النقلة الصاروخية، ولكنه قد يكون مثالا صارخا علي الدور الذي صارت كرة القدم تلعبه في التغير الاجتماعي، بدءا من العقد الأخير في القرن العشرين، في ظل تحول كبير في الاقتصاد العالمي ارتبط بصعود “النيوليبرالية” وتوجهاتها المنحازة إلي الشركات، و”الأخطبوطات”، و”الحيتان” الاقتصادية، والتي أدت إلي أسوأ حراك اجتماعي شهده النظام الرأسمالي العالمي، منذ أن “هذبت” دولة الرعاية Welfare State الأسواق، ووضعت حدودا لتوحش الأقوياء.
ولذلك، انعكس توسع التفاوت الاجتماعي في العالم علي كرة القدم التي أصبح فيها بدورها “حيتان”، يكسب الواحد منهم مثلما يحصل عليه عدة مئات من اللاعبين، سواء في بلده، أو في البلد الذي يتعاقد مع أحد أنديته.
كما أصبح “حيتان” الجيل الراهن من “السوبر ستارز” في كرة القدم أكثر حظا من أمثالهم في الجيل السابق مباشرة. وإذا بقينا مع ميسي مثالا، فلنقارن الوضع الاجتماعي الذي آل إليه بحال مواطنه مارادونا الذي ربما يعده ناقدون أكثره مهارة، ولكنه أقل ثراء، لأن معدلات التغير الاجتماعي الذي تصنعه كرة القدم علي المستوي الدولي لم تكن قد بلغت المستوي الذي أتاح لنجوم العقدين الأخيرين قفزات صاروخية لا سابق لها.
وقد حدث ذلك تدريجيا، مثله مثل كثير من التحولات التي يشهدها العالم. فقد كان جيل مارادونا أكثر حظا في مجال الصعود الاجتماعي، مقارنة بجيل البرازيلي بيليه، أول من حمل لقب “ساحر الكرة” في العالم في خمسينيات القرن العشرين وستينياته. أما الجيل الراهن، فهو الأكثر حظا علي الإطلاق.
ويبدو التفاوت في دخول لاعبي كرة القدم امتدادا للتفاوت الاجتماعي الذي بلغ ذروته في العالم في العقود الأربعة الأخيرة مقترنا بصعود الليبرالية الجديدة التي يراها من ينبهون إلي أخطار هذا التفاوت “متوحشة”.
ويمكن أن نعطي فكرة عن التفاوت في دخول اللاعبين عبر مقارنة بين قيمة المنتخبات الستة الكبار، ومنتخبات “القاع” في هذا المجال في “مونديال” البرازيل .2014
كان منتخب إسبانيا صاحب أعلي قيمة تسويقية في هذا “البزنس”، حيث وصلت قيمة لاعبيه إلي 622 مليون يورو، وتصدرهم أندريس انيستاتيه بقيمة 55 مليون يورو، وهسك فابريماس بقيمة 5.5 مليون، وخوان ماتا، وديفيد سيلفا بقيمة 40 مليونا لكل منهما. وجاء بعده منتخب البرازيل بقيمة إجمالية 476 مليون يورو، وتصدره نيمار داسيلفا بقيمة 60 مليون يورو. وتبعهما منتخب فرنسا بقيمة 362 مليون يورو، وتصدره بول دروجبا بقيمة 40 مليون يورو، وكريم بنزيمه بقيمة 30 مليون يورو.
وكان منتخب الأرجنتين في المركز الرابع من حيث قيمته التسويقية التي بلغت 344 مليون يورو، وتصدره ليونيل ميسي بقيمة 105 ملايين يورو (الأعلي علي الإطلاق). وتبعه المنتخب الإنجليزي بقيمة إجمالية 334 مليون يورو، وتصدره واين روني بقيمة 45 مليون يورو، وجاك ويليستر بقيمة 33 مليون يورو. وحل المنتخب الإيطالي سادسا بقيما 323 مليون يورو، وعلي رأسه ماريو بالوتيلي بقيمة 30 مليونا، وماركيروزيو بقيمة 28 مليون يورو.
أما منتخبات القاع في ذلك المونديال، فكانت منتخب هندوراس بقيمة 18 مليون يورو، ومنتخبا استراليا وإيران بقيمة 21 مليون يورو لكل منهما، وكوستاريكا بقيمة 29 مليون يورو.
والملاحظ أن المنتخبات الإفريقية لم تكن في القاع، بل احتل بعضها مراكز معقولة، مثل منتخب كوت ديفوار بقيمة 121 مليون يورو، حظي باباتوريه بثلاثين منها، ومنتخب الكاميرون بقيمة 118 مليون يورو، وتصدره اليكس سونج (لاعب برشلونة) بقيمة 18 مليون يورو.
ثانيا- اقتصادات الكرة .. و”بزنس المونديال”:
لم يقتصر تأثير التحولات التي حدثت في اقتصادات كرة القدم، بفعل هيمنة التوجهات الليبرالية الجديدة في الاقتصاد العالمي، علي التفاوت الاجتماعي الهائل وغير المسبوق في سوق شراء اللاعبين وبيعهم. فقد أصبحت هذه اللعبة التي لا يضاهيها غيرها نوعا من “البزنس” في المقام الأول، وصارت اقتصاداتها هي المحدد الأول لها.
وإذ أصبحت كأس العالم “المونديال” ساحة رئيسية لهذا “البزنس”، فقد أخذ البعد الاقتصادي لكرة القدم يطغي علي بعدها الرياضي الذي يفترض أنه أساسها من “مونديال” إلي آخر. وتعددت جوانب “بزنس” كرة القدم وتكاثرت، حيث تشمل عقود اللاعبين، والمدربين، والفنيين، والحكام، ورواتبهم، وشراء الأدوات الرياضية، وبناء الملاعب وصيانتها، وتربية ناشئين وبيعهم (مدارس أو أكاديميات الناشئين)، والإعلانات التجارية، وصولا إلي حقوق البث المباشر للمباريات.
ولم يكن الصراع الذي امتد لأكثر من عامين بين الحكومة البرازيلية التي أنفقت نحو 13 مليار دولار لتنظيم “مونديال” 2014، ومحتجين نددوا بهذا الإنفاق لاعتقادهم في أولوية توجيه هذا المبلغ لمكافحة الفقر إلا وجها واحدا من أوجه كثيرة في “بزنس” ذلك “المونديال”.
وقل مثل ذلك عن قيام النجم البرازيلي المشهور عالميا رونالدينهو بتأجير بيته الفخم خلال فترة “مونديال 2014” الذي غاب هو عنه مقابل 15 ألف دولار لليلة الواحدة. ورغم أنه لم يفعل إلا مثلما فعله آلاف البرازيليين الذين يستفيدون من استضافة بلدهم “المونديال” لتأجير منازلهم بمبالغ كبيرة، فقد أظهر سلوكه هذا المدي البعيد الذي بلغته “بزنسة” كرة القدم.
فقد أصبح اللاعب، خاصة النجم، ”مستثمرا” يستثمر موهبته ومهارته تجاريا في رأي بعض المهتمين باقتصادات الرياضة، و”سلعة” تباع وتشتري، وتنتقل من ناد إلي آخر، ومن بلد إلي غيره في رأي من ينتقدون المبالغة فيما يسمونه “بزنسة” كرة القدم، إلي الحد الذي جعلها “بزنس” في المقام الأول، ثم رياضة في مرتبة تالية.
غير أن هذه اللعبة كانت مؤهلة لذلك بحكم ارتباطها بالنظام الرأسمالي العالمي منذ بدايتها، علي النحو الذي سبق توضيحه، لأن شروط الأداء الجيد فيها تشبه إلي حد كبير متطلبات النجاح الاقتصادي من تخطيط، واستثمار، وتنظيم، وانضباط، وتدريب للاعبين (العاملين).
وقد تنامي حجم “البزنس” في هذه اللعبة المحبوبة بقوة، وبمعدلات متسارعة للغاية في العقود الثلاثة الأخيرة بصفة خاصة، في ظل “النيوليبرالية”. وصارت الأندية الرياضية، خاصة الكبيرة منها، شركات تعمل وفق معايير الاقتصاد الرأسمالي وآليات السوق أكثر مما تعني بقواعد الرياضة ومتطلباتها.
وأصبح لعدد متزايد من هذه الأندية حضور في أسواق الأوراق المالية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي. ويتوسع يوما بعد يوم النشاط التجاري لهذه الأندية التي تحقق إيرادات كبيرة من بيع السلع الرياضية، مثل القمصان التي تحمل اسم النادي، وشعاره، أو صور نجومه، وكذلك “الشورتات” والأحذية.
وينطوي تطور صناعة السلع الرياضية علي مفارقات كثيرة، منها -علي سبيل المثال- أن أكبر علامتين تجاريتين في عالم الأحذية الرياضية (أديداس، وبوما) تعودان إلي شقيقين ألمانيين هما أدولف ورودولف داسلر. فقد أسس والدهما شركة ورثاها عام 1924، ونجحا في إضفاء جاذبية علي الأحذية الخفيفة التي تستخدم في المشي والتنزه إلي جانب مزاولة الرياضة.
واستفاد وريثا هذه الشركة من انتشار كرة القدم في العالم، وصمما حذاءين من جلد مرن خفيف، ووضعا في نعليهما عوارض تحول دون انزلاقهما خلال الركض، واستغلا أجواء المرحلة النازية، حيث كان هتلر يدعو الألمان إلي ممارسة الرياضة لبناء أجسام متينة متناسقة تنسجم مع الروح القومية المتطرفة التي بثها في المجتمع.
وكانت دورة الألعاب الأوليمبية في برلين عام 1936 نقطة تحول، خاصة عندما وافق عدَّاء أمريكي فائز بأربع ميداليات ذهبية حينها علي ارتداء حذاءين من إنتاج شركتهما، الأمر الذي أتاح لهما دعاية مجانية واسعة في العالم.
ولم يلبث هذان الأخوان أن اختلفا ثم اصطدما، سواء في طريقة إدارة الشركة، أو في الموقف تجاه الحرب التي شنها هتلر. فقد أعادت كارثة الحرب إلي أحدهما (أدولف) بعض وعيه الذي كان مفقودا. ولذلك، حدث انفصال بينهما، وتحولت الشركة إلي اثنتين، استمدت إحداهما اسمها من تحوير في اسم مالكها (أدولف) فصارت “أديداس”، بينما أطلق شقيقه علي الثانية اسم “بوما”، واتخذ من الفهد المتوثب شعارا لها.
ورغم ذيوع شهرة الشركتين، فإنهما لم تحققا الانتشار الذي بلغتاه الآن، ولم تصبحا عابرتين للحدود والقوميات، إلا في ظل تحولات الليبرالية الجديدة منذ ثمانينيات القرن الماضي. فقد أصبحتا تنتجان أحذية لمعظم الرياضات بخلاف كرة القدم، وصارت كل منهما راعية لعدد من أكبر أندية العالم، واشتد التنافس بينهما في مختلف مجالات الرياضة، وصولا إلي رعاية شركة “بوما” سباق السيارات الأشهر “فورمولا واحد”.
وازدهرت تجارة انتقال اللاعبين التي كانت قد بدأت متواضعة في نهاية القرن التاسع عشر، عقب إقرار نظام الاحتراف الرياضي للمرة الأولي عام .1885 وأصبح هذا الانتقال الآن أحد أبرز مظاهر اقتصادات كرة القدم، حيث ينتقل في نهاية كل عام آلاف اللاعبين بين الأندية وعبر الحدود. ومن بينهم، بل في مقدمتهم، عشرات من أبرز النجوم المشهورين علي امتداد العالم.
وأصبح هذا الانتقال ظاهرة تستعصي متابعتها. وبدأ تضخمها يثير قلق المسئولين عن الرياضة في بعض الدول الأوروبية، خاصة بريطانيا. فقد انتقد رئيس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم جريج دايك، قبيل افتتاح “مونديال 2014” في البرازيل، قلة عدد اللاعبين المحليين في بعض أهم فرق الأندية البريطانية. وكان مثيرا للانتباه، بل الدهشة، كلامه عن وجود لاعبين إنجليزيين اثنين فقط في تشكيلة فريق نادي مانشيستر سيتي في معظم مباريات الدوري في موسم 2013-2014، وعدد يتراوح بين ثلاثة وخمسة فقط في تشكيلات فرق أندية أخري بما فيها تشيلسي.
وهذه ظاهرة منتشرة في العالم، فنجوم البرازيل مثلا كلهم يلعبون في أندية أوروبية. ولذلك، يتابع محبو كرة القدم في البرازيل مباريات الدوري في دول أوروبية عدة، ولا يهتمون بدوري بلادهم إلا لماما. وحتي مباريات فريقي الناديين الكبيرين (فلومينيزي وكورنثيناس) لا يحضرها عدد كبير من المشجعين. وربما لهذا السبب، وصف الرئيس البرازيلي السابق، لولا داسيلفا، كرة القدم بأنها لم تعد لعبة رياضية، بل ماكينة لإنتاج النقود.
وتمني دايك مراجعة القانون الذي ينظم منح رخص العمل للاعبين الأجانب، بحيث لا يزيد عددهم علي اثنين في كل ناد. غير أنه ليس كل ما يتمناه رئيس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم يدركه. فقد سخر بعض زملائه رؤساء الأندية البريطانية من ملاحظاته التي تتعارض مع مصالح اللاعبين، فضلا عن الوسطاء الذين كان نشاطهم قد بدأ داخليا في بلادهم، ثم صار أكبره عابرا للحدود، في ظل عولمة كرة القدم.
وكان تنظيم “المونديال” بداية ظاهرة انتقال اللاعبين من ناد إلي آخر عبر الحدود، وحصول بعضهم علي جنسيات دول ينتقلون إليها. وكان لتقدم وسائل الاتصال أثر جوهري في هذا المجال، كما في مختلف مجالات “بزنسة” كرة القدم، وتنامي أبعادها الاقتصادية، وتحولها إلي جزء من الاقتصاد العالمي. كانت البداية باختراع الراديو، حيث تم نقل أول مباراة علي الهواء في يناير 1927، وكانت بين أرسنال وشيفيلد يونايتد الإنجليزيين. وازداد انتشارها عالميا في ظل التليفزيون الذي نقل شعبية اللعبة إلي ذروتها، ثم أصبح شريكا أساسيا فيها، ثم متحكما بها من الناحية الفعلية، عبر شراء حقوق البث.
غير أن لهذه التحولات، وما اقترن بها من ازدياد مطرد في عمليات شراء وبيع لاعبين أجانب، وجها إيجابيا هو تهذيب العنصرية ومحاصرتها، وصولا إلي إنهائها تقريبا في الملاعب إلا علي سبيل الاستثناء. وارتبط ذلك بتوسع أندية أوروبية متزايدة، ثم أمريكية، في شراء لاعبين من مختلف أنحاء العالم، خاصة من إفريقيا التي استعبدها الغرب طويلا.
غير أن الصفقات المرتبطة بهذا الانتقال لم تعد إلا جزءا صغيرا في “بزنس” كرة القدم، كما في اقتصادات “المونديال” الذي يقام كل أربع سنوات. فقد صارت حكومات الدول التي تتنافس لاستضافة “المونديال” تنظر إلي هذه المناسبة الكبري بحسبانها فرصة اقتصادية تتجاوز الرواج الذي يترتب علي ازدهار السياحة خلال فترة هذا “المونديال”. فهي تستغله في الترويج لمشاريع تسعي إلي جذب استثمارات أجنبية فيها، ولمنتجات تتطلع إلي إيجاد موطئ قدم لها في السوق العالمية، ولمزاياها السياحية. وهذا هو ما ظلت حكومة البرازيل ترد به علي المحتجين الذين صدمهم هول الإنفاق علي تنظيم “مونديال” عام 2014، ولم يظهر ما يدل عليه حتي كتابة هذه المقالة.
وفضلا عن تحول الحكومات إلي طرف رئيسي في “بزنس المونديال”، فهناك أيضا شركات بناء الملاعب التي تجني أرباحا هائلة كل أربع سنوات، وشركات الإعلانات التي تحقق بدورها مكاسب لا مثيل لها في مناسبة أخري، بعد أن صارت الفئات الوسطي والعليا هي المكون الرئيسي لجمهور كرة القدم في العالم.
فكان التحول في تركيب هذا الجمهور من الطبقة العاملة، والفئات المهمشة إلي الشرائح الاجتماعية الوسطي والعليا أحد أهم المتغيرات التي أسهمت في “بزنسة” كرة القدم، ضمن تحولات كبري لم تعد اللعبة الأولي في العالم بموجبها مجرد رياضة، مثلما صار “المونديال” الذي يتابع مئات الملايين دوراته أكثر بكثير من مناسبة رياضية.
وفي ظل هذا التحول الجذري، أخذ الفساد الذي بدأ صغيرا يكبر إلي أن بات أحد أهم ما يشغل المهتمين بكرة القدم في العالم، قبل اجتماع جمعية “الفيفا” العمومية التي ستنتخب رئيسا جديدا له في فبراير القادم.
د. وحيد عبدالمجيد
مجلة السياسة الدولية