لأول مرة منذ سنوات، تلوح في الأفق فرصة، وإنْ ضعيفة، لتحقيق تقدّم على طريق حل الأزمة السورية. الآمال بهذا الشأن تجدّدت نتيجة الاتفاق الروسي – الأميركي الذي تمثّل في صدور قرار مجلس الأمن رقم 2585 ومدّد العمل بالقرار 2165 الصادر عام 2014 الخاص بآلية إيصال المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر الحدود.
قد يبدو هذا الإنجاز بسيطًا، لكنه، بالنسبة لملايين المشرّدين والمحتاجين السوريين، يعني مسألة حياة أو موت، ويعدّ تقدما مهمًا أيضًا، إذا أخذنا في الاعتبار ضآلة الاعتبارات الإنسانية في التفكير السياسي الروسي، خصوصا أن روسيا استخدمت المدنيين سلاح حرب وأداة لانتزاع تنازلاتٍ في مفاوضاتها مع الأميركان والأوروبيين منذ تدخلها عسكريا في سورية عام 2015. بهذا المعنى، يمكن القول إن المقاربة الإنسانية التي اختار الأميركيون التركيز عليها للتهرّب من مسؤولية لعب دور أكبر في حل الأزمة السورية، وتجنب الغوص في مستنقع القضايا السياسية الشائكة، قد حقّقت تقدمًا يمكن البناء عليه، خصوصا أن إدارة الرئيس بايدن اعتبرت أن التجاوب الروسي بهذا الشأن يعني أنهم مستعدّون للتفاوض، والوصول إلى حلول وسط.
لا يجوز للمرء، في هذه المرحلة، أن يرفع سقف التوقعات، أو يبيع الوهم لشعبٍ حطّمته خيبات الأمل الناتجة من تقولات وتحليلات رغبوية على مدى سنين الأزمة، فليس هناك ما يشي بحصول تحوّل كبير في المواقف الأميركية والروسية، فسورية ما زالت في موقع متدنٍّ على سلم أولويات واشنطن الدولية، وما زالت زوايا الاهتمام بها محصورةً بملاحقة بقايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومنع حصول كارثةٍ إنسانيةٍ تضطرّها إلى التدخل لفرض منطقةٍ آمنة، كما فعلت في شمال العراق عام 1991. من هذا الباب، هناك احتمال أن تركن الولايات المتحدة إلى نجاحها المرحلي في الحفاظ على المعبر الإنساني، وآلية إيصال المساعدات، وتعود إلى تجاهل المسألة السورية. روسيا ما زالت على نهجها الذي بدأته منذ عشر سنوات، وتفاقم مع تدخلها عسكريا، في استخدام سورية والسوريين صندوق بريد للتعاطي مع الأميركيين، وأداةً لجرّهم إلى التفاوض معها بندّية حول مروحة واسعة من القضايا الثنائية والدولية.
مع إدراكنا ذلك كله، يمكن أن يمثل التفاهم الروسي – الأميركي أخيرا، على جزئيته ومحدوديته، حافزًا نحو التعاون في ملفاتٍ أخرى، تخدم التوصل إلى حل للصراع على مراحل، ابتداءً بالقضايا الإنسانية وصولًا إلى القضايا السياسية والأمنية الأكثر تعقيدًا. هنا تبرز أهمية الملف الإنساني الآخر الذي يشكّل جرحًا غائرًا في الجسد السوري المثخن، وهو ملف المعتقلين والمفقودين، فليست هناك قضية حاليًا يمكن أن تصنع فرقًا في الصراع السوري وتعزّز الثقة بإمكانية حله، مثل قضية إطلاق المعتقلين، والكشف عن مصير المغيّبين والمفقودين. ولهذا السبب تحديدا، يجب أن يحظى هذا الملف بأولويةٍ قصوى خلال المرحلة المقبلة، ويبدو أنه كان مثار بحثٍ في أثناء زيارة المبعوث الروسي، ألكسندر لافرنتييف، إلى دمشق عقب القمة الروسية – الأميركية في جنيف في 16 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، ما يعني أنه جرت مناقشته بين بايدن وبوتين.
إذا حصل تقدّم في هذا الملف، فالأرجح أن ينعكس إيجابيا على المشهد العام للقضية السورية. ويمكن، بالبناء عليه، التوجّه إلى مناقشة القضايا الإنسانية الأخرى، مثل توفير شروط عودة اللاجئين والمهجّرين، وإطلاق عملية إعادة الإعمار ورفع العقوبات، بالتوازي مع معالجة القضايا المتصلة بالملفين، السياسي والأمني، وهي: فرض وقف إطلاق نار دائم وشامل على كل الأراضي السورية، والدفع بمسار اللجنة الدستورية المؤدّي إلى تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، وهيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، بحيث يتم استيعاب فصائل المعارضة فيها، وإخراج كل المليشيات والمقاتلين الأجانب من الأراضي السورية، وانسحاب كل الجيوش الأجنبية، مع الاتفاق على ترتيباتٍ خاصة بالوجود العسكري الأميركي والروسي، باعتبارهما الضامنين لأي اتفاق.
هناك إذًا ثلاثة مسارات يمكن أن تسير بطريقة متزامنة على طريق الحل وإعادة بناء الدولة: الإنساني (إطلاق المعتقلين وعودة اللاجئين ورفع العقوبات وإعادة الإعمار)، السياسي (صياغة الدستور والانتخابات)، الأمني (وقف إطلاق نار شامل ودائم، وهيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وإخراج العناصر الأجنبية، وحصر السلاح بيد الدولة). هل يمكن العبور من الثغرة الصغيرة التي فتحها اتفاق المعبر إلى معالجة هذه القضايا الكبرى؟ ممكن، إذا توفرت إرادة الحل لدى الروس والأميركيين، والسوريين بالطبع.
مروان قبلان
العربي الجديد