ما أقسى وأمرّ أن يموت أقرب الناس إليك وأنت وراء القضبان لا حول لك ولا قوة. تبكي بحرقة بل وقد تنتحب بلوعة المقهور إذا لم تتمكن حتى من تقبيل هذا العزيز الذي رحل.
الأسيرة الفلسطينية خالدة جرار القيادية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فقدت مؤخرا ابنتها سهى وقبلها والدها وهي رهن الاعتقال. حكم عليها بالسجن لعامين في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ويفترض أن يتم الإفراج عنها في أيلول/ سبتمبر المقبل، لكن لا أحد يدري إن كان سيسمح لها بحضور جنازة ابنتها واحتضانها للمرة الأخيرة قبل أن توارى الثرى.
الكل يطالب الآن بإطلاق سراحها حتى تتمكن من ذلك لكن الاحتلال لا يبدو في وارد أن يسمح وهو الذي لم يتردد في قمع وقفة أمام معتقل «عوفر» غربي مدينة رام الله وسط الضفة الغربية كانت تطالب بإطلاق سراح جرار. وإذا ما تمسك الاحتلال بالرفض فإن أحدهم وصل إلى حد الدعوة إلى عدم دفن الابنة سهى حتى خروج أمها خالدة، وإن طال المدة.
قبل أسابيع توفيت المعارضة والحقوقية الإماراتية آلاء الصديق في حادث سير في بريطانيا وهي التي عرفت بدفاعها عن المعتقلين في الإمارات ومن بينهم والدها محمد عبد الرزاق الصديق، الذي اعتقل في عام 2013 وحكم عليه بالسجن لعشر سنوات، ومعه عشرات آخرون اتهمتهم الحكومة بمحاولة انقلاب في محاكمة وصفتها منظمات حقوقية دولية بغير العادلة.
لا يمكن تخيل لوعة هذا الأب في فقدان ابنته في عمر الزهور، المديرة التنفيذية لمنظمة «القسط» لحقوق الإنسان المعنية بمعتقلي الرأي في الخليج. لم يكن من الوارد الحديث عن السماح له بالخروج لحضور جنازة فلذة كبده لأن الفقيدة، التي كانت تعيش في بريطانيا، دفنت أصلا في قطر حيث تقيم الأسرة فلا مكان لها في وطنها حتى تحت التراب، والله وحده أعلم متى يمكن لهذا الوالد المكلوم أن يحظى، على الأقل، بالوقوف على قبر ابنته.
الصحافي المصري محمود حسين، مراسل قناة «الجزيرة» السابق في القاهرة الذي اعتقل أثناء زيارة لعائلته في مصر نهاية عام 2016 وظل في السجن دون تهمة محددة ولا محاكمة لزهاء الأربع سنوات، قبل أن يتم إطلاق سراحه، مات والده وهو في السجن، كما أنه لم يتمكن طوال هذه الفترة من رؤيته بعد أن أقعد المرض هذا الفلاح السبعيني إثر إصابته بجلطة في الدماغ مطلع عام 2018، قبل أن تتوالى إصاباته بجلطات متتالية قضت عليه في النهاية.
الصحافي عليه أن يتحمّل تبعات اختياراته في هذه الحياة لكن ذلك لا يقلل في شيء من ضرورة انتباه السلطات في الدول المشار إليها، وفي غيرها بلا شك، إلى الندوب الغائرة التي تتركها هذه الممارسات
محمود كان «محظوظا» إذ سمحت له السلطات بحضور الجنازة حتى وإن جاءها برفقة سجانه المربوط معه في القيد الحديدي حيث تمكن من النزول إلى حيث يرقد والده في قبره، ويحتضنه باكيا، راسما على جبينه قبلة كان يمنيّ النفس بها النفس حين كان على فراش مرضه الطويل.
تيسير علوّني مراسل قناة «الجزيرة» الشهير في أفغانستان الذي حكم عليه في إسبانيا عام 2005 بسبع سنوات سجنا بتهم تتعلق بالإرهاب، توفيت والدته في موطنه سوريا بعد أربع أشهر من هذا الحكم، ولم يتمكن طبعا من توديعها، ليس فقط لأنه في السجن الانفرادي وقتها بل لأنه ممنوع من دخول بلده. وبعد أن خرج تيسير من السجن وأخضع للإقامة الجبرية في إسبانيا، برّأته لاحقا المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان من التهم الظالمة التي لحقت به، وتمكن من استعادة حريته، ولكن من يعيد له حضن أمه لتعانقه حية أو ميتة.
كل من ذكرنا لم تتعلق بهم تهم حق عام أو تهم مخلة بالشرف بل هم سجناء سياسيون دخلوا سجون الاحتلال أو سجون بلدهم أو سجون البلد الذي لجأوا إليه وحصلوا على جنسيته. تعددت الظروف والسياقات ولكنهم جميعا وضعوا وراء القضبان لأنشطة مختلفة تتعلق بعملهم أو آرائهم وتحركاتهم السياسية التي لا تُجرّم عادة إلا في الدول المستبدة.
ليس الهدف مما سبق مقارنة ما يمكن أن يتعرض له سجين النضال أو الرأي في سجون يفترض ألا يجمع بينها أي رابط مشترك، وإنما الهدف هو الاشارة إلى عمق المرارات التي يخلفها وضع يجد فيه السجين نفسه في وضع لا يملك فيه سوى الدموع للتعبير عن فاجعة يقف أمامها عاجزا بالكامل حتى عن مجرد توديع فلذة كبده أو والديه بسبب حكم جائر يبقيه وراء القضبان. هنا يمتزج قهر السجن ظلما بقهر ما سببه ذلك لاحقا من مآس شخصية.
صحيح أن السياسي أو المناضل أو الصحافي عليه أن يتحمّل تبعات اختياراته في هذه الحياة لكن ذلك لا يقلل في شيء من ضرورة انتباه السلطات في الدول المشار إليها، وفي غيرها بلا شك، إلى الندوب الغائرة التي تتركها هذه الممارسات، ليس في نفسية من مرّ بهذه المحنة القاسية جدا، وإنما أيضا لدى عائلاتهم ومعارفهم والرأي العام وهذا كله من الصعب ألا تكون له انعكاساته وافرازاته المختلفة الخطيرة اليوم أو غدا.
محمد ريشان
القدس العربي