إدارة شراكات الدفاع في الشرق الأوسط وسط منافسة القوى العظمى

إدارة شراكات الدفاع في الشرق الأوسط وسط منافسة القوى العظمى

عند النظر إلى تقليص الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط على خلفية إعادة إشراك إيران دبلوماسياً وسحب القوات من أفغانستان، سيرى بعض الشركاء المحليين أن ذلك هو بمثابة التخلي عن المنطقة. بإمكان الحكومة الأمريكية مواجهة سردية الانسحاب من خلال فصل التزامها الإقليمي عن عدد “الجنود على الأرض”، وبناء خطط تعاون أمني طويلة المدى، وتوضيح سياستها الخاصة بـ” قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات”، وتعزيز التعاون الأمني مع الشركاء الرئيسيين في المنطقة.

في الوقت الذي تُراجع فيه إدارة بايدن المكانة العسكرية العالمية للولايات المتحدة، يتمثّل التقييم المشترك بتقّلص وجودها في الشرق الأوسط. وقد أشار “الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي” الأمريكي في آذار/مارس، إلى الحاجة إلى “تحديد الحجم المناسب” لهذا الوجود “إلى المستوى المطلوب لتعطيل الشبكات الإرهابية الدولية وردع العدوان الإيراني وحماية المصالح الأمريكية الحيوية الأخرى”. وعند النظر إلى تقليص الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط على خلفية إعادة إشراك إيران دبلوماسياً وسحب القوات من أفغانستان، سيرى بعض الشركاء المحليين أن ذلك هو بمثابة التخلي عن المنطقة.

ولحسن الحظ، تمتلك الحكومة الأمريكية وسائل كثيرة لمواجهة هذه السردية. فليس من الضرورة أن يعني الانخفاض في وجود القوات انخفاضاً في التأثير أو الفعالية، وتبقى الحقيقة عدم وجود منافس آخر يمكنه أن يضاهي شبكة العلاقات الدفاعية القوية لواشنطن في المنطقة. ومع ذلك، إذا كانت الإدارة الأمريكية تأمل في تبديد الحديث عن التراجع الأمريكي، وتأمين المصالح الأمريكية، ومنع المكاسب السلبية التي يمكن أن تحققها القوى العظمى المنافسة، فسوف تحتاج إلى زيادة جهودها الدبلوماسية على جبهات مختلفة، وتوضيح رسائلها، والقيام بالتزام دائم لتلبية احتياجات الشركاء.

قلب السردية

قد يكون التركيز على عدد القوات في أي مسرح معين مضللاً. وفي الشرق الأوسط، لا يكفي انخفاض حجم القوة الإجمالي وحده لفهم الوضع بأكمله. ففي كانون الثاني/يناير، على سبيل المثال، أشار الجنرال كينيث ماكنزي إلى أن “القيادة المركزية الأمريكية” تعمل على استكشاف خيارات قواعد بديلة في المنطقة، بهدف تقليل المخاطر التي تشكلها الصواريخ الجوالة والبالستية الإيرانية على القواعد الأمريكية جزئياً. ويتركز العديد من هذه المنشآت في دول الخليج – كنتيجة ثانوية لسياسة الاحتواء الأمريكية في التسعينيات وغزو العراق في عام 2003 – بالتالي تتواجد على مسافة قريبة من إيران. وحتى مع وجود أصول للدفاع الصاروخي الباليستي، تبقى هذه المنشآت معرضة للخطر. إن نقل القوات الأمريكية إلى قواعد أخرى يقلل من الخطر الإجمالي ويزيد من مرونة واشنطن في الرد على التهديدات في مواقع مختلفة.

بالإضافة إلى ذلك، في أعقاب الهجوم بالصواريخ الباليستية الإيرانية على “قاعدة عين الأسد الجوية” في كانون الثاني/يناير 2020، وحّدت الولايات المتحدة قواتها في العراق لتعزيز حماية القوة، وتحقيق أقصى قدر من تغطية الدفاع الجوي، وزيادة قدرة ردع الوجود الأمريكي. وحتى لو انخفض المستوى الإجمالي للقوات، تُظهر مثل هذه الجهود التزاماً بتشديد الدفاعات من أجل تحقيق الحد الأقصى لبقاء الولايات المتحدة في المنطقة، ولا بد من أن تتوافق الرسائل التي تبعثها واشنطن إلى شركائها وخصومها وفقاً لذلك.

وبإمكان الميزات الأخرى الأرفع مستوى في التخطيط الدفاعي الأمريكي أن تُطمئن الشركاء أيضاً. فكما يتضح من مختلف برامج التدريب العسكري الأجنبي في الولايات المتحدة، والجهود المشتركة المستمرة لمكافحة الإرهاب، والمناورات العسكرية في المنطقة (على سبيل المثال، مناورات “الأسد المتأهب” في الأردن، و”المدافع المتأهب” في الكويت، و”النجم الساطع” في مصر)، فإن تطوير المبادرات التي تُظهر الالتزام الدائم لا يتطلب حيازة بصمة كبيرة. على سبيل المثال، يواصل “الأسطول الخامس الأمريكي” الذي مقره في البحرين رعاية “التحالف الدولي لأمن وحماية حرية الملاحة البحرية” المكون من ثمانية أعضاء، لأنه يحمي التدفق الحر للتجارة عبر مضيق هرمز. فبالإضافة إلى إجراء مناورات منتظمة بشأن حُرية الملاحة مع الشركاء، صادَر “الأسطول الخامس” مؤخراً حمولة من الأسلحة الصغيرة في سفينة كانت متجهة على الأرجح إلى المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن.

وفي ناحية أخرى من المنطقة، حوّل “البنتاغون” إسرائيل من نطاق مسؤولية “القيادة الأوروبية” إلى “القيادة المركزية” الأمريكية. وستمنح هذه الخطوة إسرائيل المزيد من الفرص لدمج جهودها الأمنية مع الشركاء العرب. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال التخطيط الدفاعي الأمريكي لإسرائيل يشمل على الأرجح أصولاً من “القيادة الأوروبية”، التي لها تاريخ طويل في توفير الخدمات اللوجستية والدعم للقوات الإسرائيلية.

بناء خطط تعاون أمني طويلة المدى

سواء كان الأمر منصفاً أم لا، غالباً ما يَنظر شركاء الدفاع في الشرق الأوسط إلى التعاون الأمني ​​على أنه استفتاء حول كيفية نظر الولايات المتحدة إلى علاقتها الإجمالية معهم. ففي الماضي، أدت المستويات المتفاوتة من مبيعات الأسلحة بين الإدارات الأمريكية ودرجات الشروط المفروضة على عمليات التسليم إلى تأجيج التوترات مع واشنطن في بعض الأحيان. واليوم، تنطوي مثل هذه الممارسات على مخاطر إضافية تتمثل في احتمال تَوجُه الشركاء إلى روسيا والصين لشراء الأسلحة.

على سبيل المثال، ووفقاً لأحدث البيانات التي قدمها “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام”، تضخمت صادرات الصين من الطائرات المسلحة بدون طيار إلى الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة. وقد تُقرر إدارة بايدن تقليص مبيعات الأسلحة إلى شركاء محددين – وهو استنتاج معقول نظراً للعواقب السلبية التي برزت في بعض الأحيان من بيع الأسلحة الأمريكية إلى المنطقة – ولكن إجراء تغيير مفاجئ للغاية قد يعرّض كل من العلاقات الثنائية والأولويات العالمية الأمريكية للخطر.

ولتجنب مثل هذا الاضطرابات، على واشنطن تطبيع ما تعتبره المستوى الأساسي للدعم بالمعدات العسكرية عبر الإدارات المستقبلية، وإعلام الشركاء بهذا المستوى. وبالنسبة للبلدان التي تعتمد على دعم “التمويل العسكري الأجنبي” و”الباب العاشر” من أبواب القانون الأمريكي، يجب أن يشمل ذلك التشاور الوثيق مع “الكونغرس” من أجل توقع مستويات التمويل في المستقبل. وبالنسبة للبلدان التي تمتلك الأموال المطلوبة لشراء الأسلحة من خلال برنامج “المبيعات العسكرية الأجنبية”، يجب على الولايات المتحدة حثها على التركيز على الطلبات التي من غير المرجح أن تثير تصدي “الكونغرس” لها، مثل الأنظمة المخصصة للدفاع الصاروخي الباليستي، وأمن الحدود، والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. ولدى بعض البلدان التي تعتمد على “التمويل العسكري الأجنبي” (على سبيل المثال، الأردن) آليات تخطيط متعددة السنوات يتشاور فيها المسؤولون الأمريكيون معها حول كيفية تحقيق التوازن بين أولويات الاقتناء والتمويل المتوقع في المستقبل. ويجب أن تنظر واشنطن في توسيع هذا النموذج ليشمل دول “المبيعات العسكرية الأجنبية” الأخرى. ويمكن لجدول زمني أطول للتخطيط أن يُطمئن الشركاء بأن التعاون الأمني ​​الأمريكي لن يتبدد بين ليلة وضحاها، حتى لو انحسر هذا التعاون أو تدفق بشكل طفيف مع تغير الإدارات [في واشنطن].

الإبلاغ عن المخاطر بشكل أوضح

أدى عاملان إلى تعقيد الشراكات الدفاعية الأمريكية بشكل متزايد في السنوات الأخيرة. والعامل الأول هو “قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات” لعام 2017، والذي يتطلب من الحكومة الأمريكية فرض ما لا يقل عن خمس عقوبات من أصل اثنتي عشرة عقوبة ممكنة ضد أي دولة تقوم بعمليات شراء عسكرية من روسيا، من بين أحكام أخرى. وحتى الآن، طبقت واشنطن عقوبات هذا القانون على الصين (لشرائها طائرة مقاتلة روسية من طراز “سوخوي يو 35” ونظام دفاع جوي “إس-400”) وتركيا (لشرائها وقبولها أنظمة “إس-400”). والعامل الثاني هو الوجود المتزايد للعتاد العسكري الروسي والصيني في الدول الشريكة للولايات المتحدة، مما يزيد من مخاطر جمع المعلومات الاستخباراتية ضد البرامج الأمريكية. ومما يزيد الأمر تعقيداً هو زيادة الاستثمار التجاري الصيني في المنطقة والقلق المتزايد من تَضمّن هذه الصفقات أصولاً استخباراتية في الغالب.

وبعد مرور عام على إقرار “قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات”، سنّ “الكونغرس” تشريعاً إضافياً يسمح للرئيس الأمريكي بإصدار إعفاءات في الحالات التي تُبطل فيها مصالح الأمن القومي الأمريكي الهدف من العقوبات. والمرشح الرئيسي لمثل هذه الإعفاءات هو الهند، التي تتمتع بعلاقة دفاعية طويلة الأمد مع روسيا لكنها مهمة بالنسبة للمنافسة الأمريكية مع الصين. وعلى الرغم من أن نيودلهي قد نوّعت إنفاقها على الاقتناء واشترت المزيد من العتاد الأمريكي في السنوات الأخيرة، إلّا أنها اقتنت أيضاً صواريخ “إس-400” من موسكو في عام 2016، ومن المتوقع أن تتسلمها هذا العام. ومن المرجح أن تنتظر إدارة بايدن إلى وقت التسليم لكي تقرر ما إذا كانت ستصدر أي إعفاء.

وفي المقابل، فإن تركيا هي حليف في “الناتو” واستلمت صواريخ “إس-400” على الرغم من التحذيرات المتعددة من الولايات المتحدة، مما أدى إلى فرض عقوبات عليها بموجب “قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات” وإخراجها من برنامج “إف-35”. ويتضح الفرق بين دولة لها علاقة طويلة الأمد مع روسيا (الهند) وحليف في “الناتو” شرعَ في صفقة شراء رغم التحذيرات (تركيا). ومع ذلك، فإن التأخير في الرد على الهند والشركاء الآخرين الذين اقتنوا العتاد الروسي (على سبيل المثال، اشترت مصر “سوخوي يو 35”) جعل العديد من الحكومات تتساءل ما هي بالضبط سياسة واشنطن المتعلقة بـ “قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات”.

وبالنسبة للوجود المتزايد لأصول الأعداء بالقرب من الأصول الأمريكية، فإن حالة تركيا المتعلقة بصواريخ “إس-400” وبرنامج “إف-35” هي المثال الروسي الأبرز، لكن العديد من الأمثلة الصينية تستحق الذكر أيضاً. فقد اختارت بكين جيبوتي كموقع لقاعدتها الأجنبية الأولى، واستقرت في النهاية على بُعد كيلومترات فقط من القاعدة الأمريكية في “معسكر ليمونيه”. ووفقاً لتقرير صادر عن “المعهد البحري الأمريكي” في نيسان/أبريل 2021، يقدّر المسؤولون العسكريون الأمريكيون أن الصين وسعت الآن قدراتها هناك لتتمكن من إصلاح حاملات الطائرات. وعلى الصعيد التجاري، هناك استثمارات صينية معيّنة – مثل الاتفاق لإدارة ميناء حيفا الإسرائيلي (الذي يستخدمه أحياناً “الأسطول السادس الأمريكي”) وخطط بناء شبكة من “الجيل الخامس” (“جي 5”) في الإمارات (التي هي في طور شراء طائرات “إف-35”) – يمكن أن تعرّض أمن الأصول الأمريكية في المنطقة للخطر، وتعقّد علاقات الولايات المتحدة مع هذه البلدان.

وكل عام، تُجري وزارة الدفاع الأمريكية حوارات عسكرية متعددة مع شركائها الإقليميين، بعضها متعدد الأطراف، وبعضها بصورة مباشرة [مع الشركاء]. يجب استخدام هذه الحوارات كمنتدى للتباحث حول سياسة “قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات”، ويشكل ذلك ما تراه واشنطن كمحفزات لكل من العقوبات والإعفاءات. ويوفر هذا المنتدى أيضاً فرصة مفيدة لتحديد المعايير حول أي مستوى وأي نوع من الاستثمار الصيني يمكن أن يحفزا واشنطن على الحد من تعاونها الأمني ​​مع شريك معين.

الخاتمة

في حزيران/يونيو، انتقلت حاملة الطائرات “يو إس إس رونالد ريغان” من مسرح المحيطين الهندي-الهادئ إلى الشرق الأوسط لدعم الانسحاب من أفغانستان. وحالما تعود حاملة الطائرات “ريغان” إلى منطقة المحيطين الهندي-الهادئ، ستتوافر لدى منافسي الولايات المتحدة نقطة نقاش مناسبة لتسليط الضوء على التراجع الأمريكي المتصوَّر من المنطقة. ولمواجهة هذه الرواية، وصد المنافسين من القوى العظمى في الشرق الأوسط، وإعادة تركيز الموارد في أماكن أخرى بطريقة أكثر فعالية واستدامة، ستحتاج إدارة بايدن إلى اتخاذ عدة خطوات عاجلاً وليس آجلاً. وعلى وجه الخصوص، يجب أن تحوِّل التركيز بعيداً عن مجرد “الجنود على الأرض”، وتوضّح سياستها الخاصة بـ” قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات”، وتعزز التعاون الأمني مع الشركاء الرئيسيين في المنطقة.

جرانت روملي

معهد واشنطن