اختُتمت في العاصمة القطرية الدوحة جولة جديدة من المباحثات بين وفدي الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، واتسمت هذه المرة بصدور إعلان مشترك يبدو إيجابياً وواعداً لأنه يعلن التوافق على تسريع خيار التفاوض، واعتماد إجراءات ملموسة لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية إلى جميع مناطق البلاد، والتعهد بأن تتجنب الأعمال العسكرية استهداف البنى التحتية، وإفساح المجال أمام الفرق الطبية للحد من انتشار فيروس كوفيد ـ 19، والحفاظ على مستوى عال في تمثيل الوفدين لتمكينهما من اتخاذ قرارات حاسمة.
وهذه في الإجمال نتائج إيجابية يمكن البناء عليها في جولات التفاوض المقبلة، خاصة وأن تصريحات صادرة عن كبار مسؤولي الطرفين أكدت على الحل السياسي، واستبعاد أن يكون الخيار العسكري كفيلاً بضمان أسس السلام في البلد وإطلاق العمليات المعقدة للمصالحة الوطنية الشاملة. ومن الواضح أن الجهود الحثيثة والمنتظمة التي بذلها الراعي القطري في الجولات السابقة، والتي لم تقتصر في الماضي على الحكومة الأفغانية والطالبان بل ضمت كذلك الطرف الأمريكي، فإن محك النوايا الحسنة التي أعرب عنها البيان المشترك الأخير هو الوضع العسكري على الأرض بين الجيش الأفغاني وقوات الطالبان والمدى الذي يمكن أن يبلغه التصعيد العسكري هناك.
ولا يخفى أن الطالبان تسعى ما أمكنها ذلك إلى التوسع العسكري على الأرض وبسط سيطرتها على مساحات إضافية، ليس بهدف توطيد أوراقها التفاوضية حين تبلغ الأمور مراحل التقاسم الفعلي للسلطات مع الحكومة المركزية فحسب، بل كذلك لأن برامجها السياسية والعقائدية والتعبوية تقتضي تمكين أنصارها ميدانياً، وعلى مدى بعيد وليس في حدود الراهن وحده. وإذا صح القول بأن الطالبان كسبت وتكسب الكثير من انسحاب الولايات المتحدة وقوات الحلف الأطلسي المختلفة، فإن المعركة مع الجيش الأفغاني طويلة الأمد وأكثر مشقة لأنها ترتكز أيضاً إلى قاعدة الكر والفر.
السلطة المركزية من جانبها في وضع لا تُحسد عليه عملياً، لأنها كانت في حال من الاتكال شبه الكلي على الوجود العسكري واللوجستي الأجنبي وهي مطالبة اليوم بتولي شؤون البلد اعتماداً على إمكانياتها الذاتية، وليس الأمر سهلاً بالطبع رغم أن الولايات المتحدة وفرت للحكومة مقدرات عسكرية وتسليحية وتدريبية لا يستهان بها. ويسهم في إضعاف موقف الحكومة أنها ليست على وفاق داخلي مطلوب في الحدود الدنيا، على مستوى السلطات والقوى المشاركة والشبكات القبائلية والبنى التحتية والبيروقراطية، والمواقف من نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة مرآة أمينة عاكسة لتعقيدات الداخل.
وقد يلوح أن الطالبان تتمتع بمقادير أعلى من الانسجام والتماسك، إلا أن سلسلة من المعطيات أظهرت في الماضي وتظهر اليوم أيضاً أن الحركة ليست على وفاق داخلي تام بشأن المصالحة الأهلية والتحول إلى صيغة المعارضة السلمية والتخلي التدريجي عن برامج التشدد السابقة بصدد الحريات العامة وحقوق الإنسان. وثمة بالتالي ما يدعو إلى ترجيح صعوبات كبرى وعراقيل مستجدة، لن يكون أبرزها الفراغ العسكري الذي سوف يخلقه الانسحاب الأمريكي والأطلسي وعزم الطالبان على المسارعة إلى ملئه.
الجولة الأخيرة كانت ناجحة إذن، ولكن حسن استثمار نتائجها مرهون بما يجري في ساحات القتال.
القدس العربي