وإذ تنهي إدارة بايدن انسحاب القوات الأميركية والناتو من أفغانستان، تطفو أسئلة ثقيلة على السطح، تركز جميعها على ما سيأتي من بعد الإخلاء الغربي للبلاد عسكرياً.
ويسود القلق في عدة عواصم عالمية لاحتمال عودة الحروب المدمرة لتؤذي الشعب الأفغاني بمختلف مكوناته، كما ينتشر خوف تقهقر حقوق الإنسان، لا سيما المرأة، بسبب استيلاء الطالبان والتكفيريين، وميليشيات متطرفة أخرى على معظم الأراضي الأفغانية.
تتشعب الأسئلة بحسب الجهة السائلة، لكنها تتمحور جميعها حول المستقبل القريب والوسيط: من سيسيطر على أكبر مساحة من البلد، من سيسيطر على العاصمة، من سيمسك بالمؤسسات الحكومية، وبالمال، وبأسلحة الجيش النظامي، وبالحدود من دول الجوار، ومن ناحية أخرى كيف ستتصرف الدول الكبرى، والإقليمية، والملاصقة، مع الوضع الجيو سياسي الجديد الذي سيفرزه الانسحاب الأطلسي؟
النقاش حول الانسحاب أو عدمه انتهى، لأن إدارة بايدن قد اتخذت قراراً بذلك، ونفذته بالكامل تقريباً. مسألة الانسحاب ستناقش في ملفات التاريخ. هل كانت آتية من قرار فعلاً يمثل الأمن القومي الأميركي، أم تلبية لاتفاقات إقليمية، كاتفاق الدوحة والاتفاق النووي الإيراني؟ هل كانت إدارات بوش، وأوباما، وترمب، والآن بايدن، مختلفة فعلاً عن بعضها بعضاً تجاه أفغانستان، أم إنها كانت ولا تزال جميعها رازحة تحت تأثيرات اللوبيات المختلفة؟ سنتابع ذلك مع الوقت، أما الآن سنركز على الحاضر الذي يداهمنا، والمستقبل الذي يبدو مستعجلاً. والسؤال الاستراتيجي يبقى هو، من سيسيطر على أفغانستان وكيف سيتصرفون سياسياً وأمنياً؟
السباق الأولي
ما يحدث الآن، وسيستمر في الحدوث، هو سباق ميداني على الأرض بين عدة قوى عسكرية للسيطرة على أكبر عدد من المراكز والقواعد، بلديات، ومبانٍ حكومية، ومطارات، وخزانات وقود ومواد أخرى، إضافة إلى مدارس، وجوامع، ومراكز شرطة.
القوة الرئيسة في الاستفادة من الانسحاب، بالتالي القوة الأسرع تقدماً، هي ميليشيات طالبان، التي انطلقت من مخابئها ومغائرها لتنتشر في مساحات الانسحاب الأطلسي، والانقضاض على المراكز الحكومية وإقامة مناطق سيطرة أمنية لطالبان، أولاً في الجنوب، وفي أية منطقة يستطيعون الوصول إليها في البلاد. وقد أسقطت الحركة بالفعل عدداً كبيراً من المديريات في حوزتها، ولا تزال تتقدم.
تحت ظل التوسع الطالباني، تهب مجموعات تكفيرية صغيرة قد بايعت “القاعدة” و”داعش”، لإعادة التموقع في نواح جديدة في طول البلاد وعرضها.
وعلى الرغم من التزام طالبان، تحت اتفاق الدوحة لعام 2020، أن تمنع انتشار هذه الجماعات “الإرهابية” في مناطق سيطرتها، فإن قيادة طالبان لم تمنع هذه الجماعات التكفيرية من اختراق عدة بلدات و قرى والتمركز فيها.
أما القوات الحكومية، فتحاول بكافة الوسائل أن تتصدى لطالبان والمجموعات التكفيرية على كافة المحاور، مستفيدة من آخر عمليات مساندة للقوات الأميركية والأطلسيين قبل انسحاب آخر الوحدات.
وتتكل القوات النظامية الأفغانية على عتادها الثقيل وسلاحها المتقدم الذي ورثته من الأميركيين لسنوات. وتتكل أيضاً على عديدها الكبير الذي يتخطى 200 ألف عسكري.
إلا أن سرعة الانسحابات وعدم وضوح الرؤيا لدى الحكومة حيال المستقبل، إضافة إلى الحوار المستمر بين واشنطن وطالبان المبني على اتفاق الدوحة، كل هذه العوامل أضعفت بعض المعنويات لدى الإداريين وبعض العسكريين، ما كان له نتائج معينة على الأرض.
المناطق الشمالية التي لعبت دوراً تاريخياً قبل 2001 في مقاومة طالبان، أيضاً تشعر بقلق حيال التطورات، ويسعى أهاليها لتشكيل قوة تصد تقدم طالبان باتجاههم، على نمط قوات “التحالف الشمالي” بالتنسيق مع الجيش الأفغاني، وربما أطراف إقليمية أخرى.
القوة الأخرى على طريق التشكيل بعد الانسحاب، واحتمال تراجع الدولة المركزية، هي مشاريع ميليشيات في مناطق الهزارة في وسط البلاد. إذ إن هذه المجموعة الإثنية، وبعض المجموعات الأخرى من الأقلية الشيعية تعتبر نفسها مهددة من قبل طالبان والتكفيريين.
ومع تراجع سلطة الحكومة وانحسار قدرات الجيش على الحماية، ستتشكل هكذا قوات لحماية مناطق التواجد للهزارة. ولكن إقامة وجود “دفاعي” لهذه الطائفة بدأت تستغله إيران لمصلحتها عبر إرسال قوات لميليشيا “الفاطميين” التي دربتها “قوة القدس” ونشرتها في سوريا لتدعم نظام الأسد و “حزب الله” إبان الحرب السورية.
وقد بدأ الحرس الثوري عملياً استقدام الآلاف من “الفاطميين” من الشام إلى أفغانستان استعداداً للسيطرة على منطقة أمنية مرتبطة بطهران.
أهداف قوى ما بعد الانسحاب
من دون شك، تبغي حركة طالبان استرجاع كل مناطق أفغانستان التي كانت مسيطرة عليها قبل الاجتياح الأميركي الذي جاء رداً على ضربات 11 سبتمبر (أيلول).
وهذا يعني اجتياح معظم أفغانستان من دون مناطق أقصى الشمال التي كانت تقاومهم بقيادة أحمد مسعود شاه والجنرال دستم. إلا أن مصادر طالبان تتكلم عن إسقاط تلك المناطق أيضاً كي لا “يكون هناك أي رأس حربة للأميركيين أو الروس على أراضي الإمارة الراجعة”.
اقرأ المزيد
الانسحاب من أفغانستان يلحق العار بالمدنيين الذين قدموا تضحيات كبيرة
التهديد الآتي من أفغانستان إلى إيران (الجزء الثالث)
الحرب الأبدية في أفغانستان لم تنته بعد ويعود الفضل في تقدم طالبان إلى ضعف الحكومة
وبالفعل فقد نجحت طالبان وبعض جماعات “داعش” و”القاعدة”، في إيجاد جزر أمنية حتى داخل الشمال القديم. إلا أن القيادة العليا لطالبان، ومن يدعمها في المنطقة، يدركون تماماً أن ابتلاع كل أفغانستان لن يكون نزهة ولن يتمكنوا من هضمها بسهولة. لذا، على الرغم من الإعلانات “الجهادية” الحامية، فالهدف الاستراتيجي الواقعي للميليشيا الطالبانية، هو السيطرة على مناطق ما قبل خريف 2001 مع محاولة للضغط على كابول.
الحكومة الشرعية وجيشها يهدفان إلى منع انتصار حاسم لطالبان، والعودة إلى كافة مناطق السيطرة السابقة، والحفاظ على كل العاصمة، الإمساك بالحدود الدولية، وكافة المؤسسات الدستورية، والدفاعية والعسكرية.
إلا أن هذه الأهداف سُيشترط تنفيذها بمدى الدعم الأميركي وتحركات باكستان وإيران. حلفاء الحكومة في الشمال يعملون على المحافظة على مناطقهم، توحيد الجهود مع الحكومة، التواصل مع العاصمة، وتأمين الدعم الإقليمي لأقاليمهم الإثنية.
أما في ما يتعلق بالهزارة، فهنالك تياران. الأول معتدل ينوي التضامن مع الحكومة والمشاركة في الدفاع عن كابول، لأنه يعرف أن أي انتصار لطالبان على السلطة المركزية سيوازي سيطرة “داعش” في سوريا والعراق، وتهديد مباشر خطير ضد الهزارة الشيعة في أفغانستان.
إلا أن تياراً أكثر اتصالاً “بالجمهورية الإسلامية” بدأ يسعى إلى إقامة منطقة سيطرة على نمط “حزب الله” في لبنان، ولو كانت في وسط أفغانستان جغرافياً. فيبقى الهدف الأكبر على مدى الأشهر والسنوات المقبلة بالنسبة إلى النظام الإيراني، إقامة جسر بري بين مناطق الهزارة والحدود الإيرانية، لتوفير الدعم من طهران إلى هكذا منطقة محاذية لإيران وربطها بمحور “المستعمرات الإيرانية”، من أفغانستان إلى الساحل السوري-اللبناني.
وقد أعلنت مصادر الحرس الثوري أخيراً، أن طهران قد تدعم تشكيل “حشد شعبي” في تلك المناطق على النمط العراقي. ما يبشر بسعي للنظام أن يسيطر على جزء من أفغانستان وضمه إلى هذه المستعمرات.
ثلاثة أنظمة؟
ستشكل طالبان سلطة خاصة بها، حتى ولو وعدت بأنها ستشارك في الحكومة المركزية. هذه الأخيرة ستستمر على عدد من البقع وتحاول البقاء، وسيدعمها التحالف الشمالي. وإذا سقطت يرث قدراتها الشماليون.
الهزارة سيلتحقون بحكومة كابول لحمايتهم من طالبان، إذا سقطت قد يتحالفون مع الشمال. وإذا سقط الجميع أمام طالبان، لن يكون هنالك خيار أمام هذه المجموعة إلا الاستنجاد بإيران وإقامة سلطة محلية لها.
إذاً، وإذ تسعى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، أن يأتوا بطالبان للجلوس داخل الحكومة مع الآخرين، قد تتطور الأوضاع إلى قيام نظامين بدلاً من واحد، حكومي و طالباني. و بحسب الخطط الإيرانية، قد يقوم نظام ثالث متحالف مع طهران.
مَن ضغَط داخل واشنطن للإسراع بالانسحاب، كان يعلم تماماً أن أفغانستان ستدخل في حقبة الانقسامات الثلاثية، حتى حقبة تاريخية جديدة. ولعل الاتفاقين النووي والدوحوي كانا فعلاً وراء المشهد المتسارع في تلك البلاد التي فقد شعبها فرص السلام.
وليد فارس
اندبندت عربي