مرة جديدة تقف درعا، التي يُنظر إليها على أنها مهد الثورة السورية، في وجه نظام بشار الأسد. فمع رفض أهالي حيّ درعا البلد تسليم السلاح الفردي لقوات النظام الساعية إلى تجريد جنوب سورية من كل أنواع القوة، تمهيداً لفرض هيمنة كاملة تعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورة، اتجه النظام إلى محاولة الضغط على الأهالي بتهديدهم بهدم المسجد العمري، ذي الرمزية الكبيرة في المحافظة.
ويرتبط هذا المسجد بالثورة في سورية عامة ودرعا خاصة. فمنه انطلقت التظاهرات عام 2011، وكان من أوائل ضحايا همجية النظام بعدما اقتحمت قوات الأخير بداية الحراك باحات المسجد وقتلت الكثير من المعتصمين فيه، ما شكّل خط اللاعودة بالنسبة إلى الثوار، ليس في المحافظة فقط، بل في البلاد كلها التي تأثرت بهذا الحدث. ولجأ النظام أيضاً إلى قصف مئذنة المسجد في عام 2013، ما أدى إلى سقوطها ودمارها. وبعد سقوط الجنوب بيد النظام وحلفائه، استمرت التظاهرات المطالبة برحيل النظام من الجامع العمري، وما زالت ساحته تشهد تظاهرات حتى الآن. وتبقى المحافظة، على الرغم من اتفاقيات التسوية المعقودة برعاية روسية، ساحة أساسية للحراك المعارض، وهي شهدت في مايو/ أيار الماضي، احتجاجات ضد الانتخابات الرئاسية التي أجراها النظام للتجديد لبشار الأسد لولاية رئاسية جديدة، تخللها رفع أعلام الثورة، وإطلاق شعارات تصف الأسد بالقاتل.
رفض ممثلو درعا البلد المطالب الأخيرة التي أرسلها النظام
هذا الواقع يطرح سؤالاً عمّا إذا كان النظام سيُقدم فعلاً على تنفيذ تهديده بهدم المسجد العمري في حال رفضِ الأهالي الخضوع لشروطه، لتدل كل السوابق من اقتحام المسجد وقتل معتصمين فيه وقصف مئذنته، على أن هذا الخيار غير مستبعد، من قبل نظام كان قد ارتكب انتهاكات ضد عدة دور عبادة في البلاد.
وتداولت مواقع إعلامية سورية محلية محسوبة على المعارضة، أخباراً عن قيام رئيس فرع الأمني العسكري (أحد أهم الأجهزة ضمن المنظومة الأمنية للنظام) في درعا، العميد لؤي العلي، بتهديد الأهالي بهدم المسجد العمري، إذا لم يستجب العناصر السابقون في فصائل المعارضة لمطالب النظام بتسليم السلاح الفردي، على الرغم من شمولهم بالتسوية التي أنجزها الروس في المحافظة صيف عام 2018، والتي تقضي ببقاء السلاح الفردي مع عناصر الفصائل.
اقتصاد الناس
الحصار يخنق درعا البلد… ارتفاع في أسعار الأدوية ومياه الشرب
وقال موقع “تجمّع أحرار حوران”، الذي ينشط في متابعة أخبار محافظة درعا، إن تهديد العلي جاء خلال لقائه وجهاء من المحافظة يوم السبت الماضي، متوعداً كذلك بمزيد من التصعيد في المحافظة، ومركزها تحديداً، التي تتعرض لحصار قوات النظام منذ 24 يونيو/ حزيران الماضي، إثر مطالبة النظام ثوار المحافظة والعناصر السابقين في فصائل المعارضة بتسليم سلاحهم الفردي.
وأكد مصدر كان على اطلاع على لقاء الوفد بالعلي، لـ”العربي الجديد”، صحة التهديدات، مشيراً إلى أن الوفد لا يُعَدّ من الموالين للثورة أو له دور في المعارضة، وهو أقرب لتوجّه النظام، مضيفاً أن العلي هدد كذلك باقتحام أحياء درعا البلد، إذا لم يُستَجَب للمطالب السابقة، بتسليم أسلحة، وتفتيش منازل، وتثبيت نقاط عسكرية في محيط درعا البلد، خلال الأيام القليلة المقبلة. ولفت المصدر إلى أن الوفد الذي التقى رئيس فرع الأمن العسكري، مكوّن من: عواد هلال أبازيد، قاسم محمد المسالمة، محمد سليم القطيفان، جمال محمد المسالمة، شامل مجد المحاميد، جمال عقيل المسالمة، عاطف شحادة الأكراد، محمد مزيد المسالمة. وهم من نقلوا تهديدات العلي إلى أهالي درعا واللجنة المركزية فيها، المشكّلة من شخصيات معارضة، وتأخذ على عاتقها التفاوض مع النظام والروس بعد اتفاق التسوية في عام 2018، بهدف الوقوف على تطبيقه.
قاطعت درعا الانتخابات الرئاسية الأخيرة وتظاهرت ضد الأسد
وعاد موقع “تجمع أحرار حوران” ليؤكد أمس أن اللجنة المركزية وممثلي عشائر درعا البلد، رفضوا المطالب الأخيرة التي أرسلها العلي، والقاضية بتسليم المطلوبين فيها، أو تهجيرهم إلى الشمال السوري، إضافةً إلى إنشاء أربع نقاط عسكرية دائمة. ونقل الموقع عن مصدر مقرب من اللجنة المركزية في درعا البلد أن جميع العشائر في المنطقة رفضت عبر اجتماع ممثليها هذه المطالب، وجاء القرار بالإجماع على أن حجارة المسجد العمري الذي هدد العلي بتدميره، لها أهمية أكبر من النظام ومليشياته جميعاً. وأضاف المصدر أن هذه المطالب دفعت إلى رصّ الصفوف وتوحيد الرد الشعبي في أحياء درعا البلد المحاصرة، ولم تنل من عزيمتهم كما يخطط النظام وأجهزته الأمنية، الذي يسعى إلى فصل القاعدة الشعبية عن اللجان المركزية ومجلس العشيرة.
ويشير القاضي سليمان القرفان، عضو اللجنة الدستورية السورية، وأحد وجوه المعارضة السورية في محافظة درعا، إلى أن “تهديدات النظام تركزت على الجامع العمري، نظراً لما له من رمزية ترتبط بثورة الكرامة في سورية، إذ انطلقت منه التظاهرات في عام 2011، وبعد سقوط الجنوب استمرت التظاهرات المطالبة برحيل النظام من الجامع العمري، وما زالت ساحته تشهد تظاهرات حتى الآن”. ويشير القرفان، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أنه “بعد مقاطعة محافظة درعا للانتخابات الرئاسية الهزلية وتقديمها صورة حقيقية عن رصيد هذا النظام الذي يرفضه الحجر والبشر، باعتباره غير شرعي وسالباً للسلطة بالقوة، جنّ جنون الأجهزة الأمنية بعد فشلها في فرض سيطرتها على أبناء المحافظة، وإرغامهم على القبول والرضوخ لسياسة البسطار العسكري، وبعد تصدي الأحرار في درعا وإفشال مشاريع الهيمنة على المحافظة وإغراقها بالمخدرات، وصلت اللجنة الأمنية في المحافظة إلى قناعة مفادها استحالة إعادة المحافظة إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، ونشر سياسة الرعب لدى أبناء المحافظة، إلا بحالة واحدة، هي نزع السلاح الفردي من أبناء المحافظة. لذلك نرى التهديدات في مناطق عدة، أولها درعا البلد، وبعدها الصنمين، ومن ثم مناطق الجيدور”.
ويضيف القرفان أن “أهالي المحافظة، بعد أن ثبت لهم أن النظام ومن خلفه الروس لا عهد لهم ولا ميثاق، في ظل تنصّلهم من التسويات السابقة، التي تعهدوا بموجبها بإطلاق سراح جميع المعتقلين وإعادة الجيش إلى ثكناته وإعادة المفصولين من الوظائف والخدمات للمحافظة، كان القرار بالإجماع برفض طلبات الروس والنظام بتسليم السلاح الخفيف تحت أي ظرف”. ويجزم القرفان “برفض أهلنا في درعا البلد مطالب النظام والروس بتسليم السلاح الخفيف وتفتيش المنازل رفضاً قاطعاً، ولن يحصل ذلك أبداً، وقد أخذ الثوار والأهالي قرارهم بذلك، وهم مستعدون لدفع الثمن مهما كان، ولو كلفهم ذلك تقديم أرواحهم”.
كل ذلك يشير إلى مزيد من التصعيد في المحافظة، التي لا يوجد أفق واضح لحل المشكلة فيها، مع إصرار النظام على إعادتها إلى “بيت الطاعة”، مقابل إصرار الأهالي فيها على عدم الاستجابة للمطالب، ما قد يجدد احتمالية اندلاع مواجهة كبيرة بين الطرفين، قد تؤدي إلى فرض معادلات جديدة في الجنوب السوري، والمحافظة تحديداً.
يُعَدّ المسجد العمري من أهم الآثار الإسلامية الحالية وأقدمها
وإضافة إلى رمزيته بالنسبة إلى الثورة، التي حاول النظام ضربها مراراً، يُعَدّ المسجد العمري من أهم الآثار الإسلامية الحالية وأقدمها، إذ يعود بناؤه إلى العهدة العمرية، بعد أن أمر ببنائه الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب عندما زار المدينة في السنة الرابعة عشرة للهجرة، وأشرف على بنائه العديد من الصحابة الذين كانوا في بلاد الشام خلال فترة دخول المسلمين إليها، منهم أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وغيرهما. وذلك يعطي للمسجد رمزيته كمعلم إسلامي، وواحد من أوائل المساجد التي بنيت في الشام وتاريخ الإسلام.
عماد كركص