حاول الرئيس الأميركي، جو بايدن، طمأنة شركائه في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد التهديد الذي حام بشأن ربط أميركا بين تمويل الشركاء الحلف وانسحاب واشنطن منه، في العام 2017، في أثناء رئاسة دونالد ترامب. وعلى الرغم من ذلك، كانت للرئيس الفرنسي، ماكرون، نيابة عن الأوروبيين، مطالب خاصة باستقلالية أوروبا الاستراتيجية عن مركزية القرار الأطلسي، وهيمنة أميركا عليه، بما سيكون له، لو قبل الناتو بتلك المطالب، تداعيات على غرب المتوسط، المنطقة التي تشمل المغرب الكبير والمنطقة الساحلية – الصحراوية، باعتبارها عمقاً استراتيجياً لجنوب حوض المتوسط الغربي.
بداية، يجب التنويه بأنّ ثمة سلوكين أمنيين لفرنسا وشركائها في الاتحاد الأوروبي، يتصرفان من خلالهما بتبعية كاملة عندما يتعلق الأمر بالناتو، والتعامل مع الولايات المتحدة، من ناحية، أو، من ناحية أخرى، مع عمالقة هذا العالم، على غرار الصين وروسيا، على وجه الخصوص، في حين أنّهم يتصرفون، عندما يتعلق الأمر بالقوى الإقليمية أو الدول التي يعتقدون أنها تقع في دائرة تأثيرهم، بإدراك يعكس الاستقلالية الاستراتيجية والمبادرة بالقرار الأمني/ العسكري في إدارة القضايا المتصلة بالصراعات والأزمات.
قد يعني هذا، في الإدراك الأمني/ العسكري، إدراكين متناقضين، تحاول القوى الكبرى في العالم، سواء تعلّق الأمر بالحليف الأكبر، الولايات المُتحدة، أو المنافسين (الصين وروسيا)، استخدامهما في التعامل مع المقاربات الأمنية/ العسكرية للأوروبيين، وهما إدراكان يترجمان التخبط الذي يحاول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ومن قبله الرؤساء الفرنسيون، تصدُّر التعبير عنه، خارج نطاق الناتو. وفي أثناء الوقوع في أزمات وصراعات يكون المنافسان المذكوران أطرافاً فيها، وإطلاق تسمية السياسة الأمنية المستقلة للاتحاد الأوروبي سرعان ما يتبين للعالم، من خلال التناقض بين الأوروبيين أو ضعف القرار الأوروبي في مواجهة تلك التفاعلات الصراعية والأزماتية، أنّها أضعف من أن تكون مستقلة أمنياً عن الناتو وعن الولايات المُتحدة، وأضعف، أكثر وأكثر، عن الندّيّة في مواجهة الصين أو روسيا.
يشكل قرار فرنسا الانسحاب من الساحل نموذجاً يُترجم، المرة تلو المرة، حاجة الأوروبيين إلى متغير التبعية ليكون المدخل للتصرف، من دول غرب المتوسط
لن نبتعد عن منطقتنا، لندلل على ذلك التخبط وبعده الأمني/ العسكري المتمثل في عدم القدرة على الاستقلالية عن الناتو أو الندّيّة في التعامل مع المنافسين، الصين وروسيا، إذ يشكل قرار فرنسا الانسحاب من الساحل نموذجاً يُترجم، المرة تلو المرة، حاجة الأوروبيين إلى متغير التبعية ليكون المدخل للتصرف، من دول غرب المتوسط، وعلى الأخص دول المغرب الكبير، للخروج من دائرة التبعية لفرنسا، بصفة خاصة، أو ما أطلق الكاتب عليه المناولة الأمنية/ العسكرية، في مقالة سابقة، في “العربي الجديد”.
ركزت يومية “لوموند” الفرنسية في أعداد لها، أخيراً (خصوصاً عدد 11 يوليو/تموز الجاري) على قرار فرنسا الانسحاب من عملية “برخان” التي تدخلت بها في منطقة الساحل في أعقاب انقلاب مالي، في 2012، وفشل عملية “سرفال” من ناحية، وانتشار الإرهاب، وفشل جيوش دول الساحل الخمس في رد هجمات الجماعات الإرهابية في مثلث الرعب بين مالي، والنيجر، وبوركينافاسو، من ناحية أخرى، وهي كتابات تحمل إيحاءاتٍ بوجوب تحويل الشأن الساحلي إلى شأن أطلسي/ أوروبي مع الدفع بدول المغرب الكبير، خصوصاً الجزائر والمغرب، للانخراط أمنياً وعسكرياً في المنطقة، بصفة عاجلة.
تحدّث الرئيس ماكرون، في خطاب له، بتقنية الفيديو عن بعد، جمعه بقادة جيوش بلدان الساحل الخمسة المشاركة مع فرنسا في “برخان” (بوركينافاسو، وموريتانيا، والنيجر، ومالي، وتشاد)، مستخدماً عبارة “إعادة انتشار” بدلاً من “انسحاب”، مؤكداً أنّ العملية ستنطلق في غضون الأشهر المقبلة (نهاية العام الحالي وبداية 2022) مع إغلاق بعض القواعد في شمال مالي، بصفة خاصة، وتقليص عدد الجنود الفرنسيين إلى حوالي 2500 جندي من أصل 5100 يوجدون، حالياً، في المنطقة. وأضاف، أيضاً، أنّ الجهد سيتركز، مستقبلاً، على المنطقة الجنوبية من مالي، قبالة خليج غينيا، بالنظر إلى المصالح الاقتصادية، وهي المنطقة المعروفة بـ”مثلث الرعب”، في محاولة لوقف تصاعد العمليات الإرهابية وتقدم الجماعات المسلحة، انطلاقاً منها، نحو مناطق أوسع في البلدان الساحلية، برمتها.
قضايا عديدة، والملفات الاقتصادية في مواجهة عمالقة الشركات الافتراضية الأميركية، تدل على التراجع الأوروبي وعدم قدرة دوله على الخوض في قضايا الاستقلالية الاستراتيجية
من ناحية أخرى، أشار الرئيس الفرنسي، على خلفية الانقلاب أخيراً في مالي، إلى تغيير نقطة ارتكاز قيادة العملية الأوروبية “تاكوبا” (Task Force Takuba) من باماكو إلى نيامي (عاصمة النيجر)، وهي القوة التي ترافق القوات المالية في عملياتها ضد الإرهاب وعدم الاستقرار، ما يدل على أنّ ثمة إدراكاً جديداً لفشل ترجمه الرئيس الفرنسي، ماكرون، بعبارات “إعادة الانتشار” من دون الإشارة إلى أنّ الأهداف المتوخاة من “برخان” أو “تاكوبا” لم تتجسد بما يعني أنّ التدخلات الأوروبية، أو المناولات باسم الناتو، باعتبار أنّ الساحل منطقة نفوذ تاريخية للأوروبيين ولفرنسا، بوجه خاص، فشلت، وأنّ المظلة الأميركية “أفريكوم” هنا، قد تكون الخيار الذي سيلجأ إليه الأوروبيون، للتغطية على عدم نجاح التخطيط الفرنسي في تصور استقلالية أمنية/ عسكرية لأوروبا، في مواجهة القيادة الحصرية الأميركية لحلف الناتو وللشأن الأمني/ العسكري الأوروبي، في العالم برمته.
يؤدي بنا ما تقدم إلى الاسترسال في قضايا مثبتة لعدم القدرة الأوروبية على الاستقلالية الأمنية/ العسكرية، لأنّ الفشل في الساحل هو صورة من صور تلك الحالة التي أضحت أوروبا عليها، إذ هناك قضية شرق المتوسط، وأزمة ناغورونو كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، والملف النووي الإيراني، من دون إغفال الملفات الاقتصادية في مواجهة عمالقة الشركات الافتراضية الأميركية. وهي، كلّها، دلائل على التراجع الأوروبي وعدم قدرة دوله على الخوض في قضايا الاستقلالية الاستراتيجية، ما أبرز، في اجتماع الناتو أخيراً، أو اجتماع السبعة الكبار، استكمال بايدن، الرئيس الجديد، السياسة الأميركية نفسها للرئيس السابق، ترامب، في التعامل مع الأوروبيين على أنّهم في المراتب الثانوية، بالنظر إلى عدة عوامل، منها تلك المتصلة بنسب دول بعينها (ألمانيا، مثلاً) في تمويل الحلف، أو انخراط الأميركيين في ملفات تنافس ذات بعد دولي، لا يمكن للأوروبيين أداء الدور الرئيس فيها، أو أن يكونوا فاعلين بما يكفل للأوروبيين التوجه نحو خيار تلك الاستقلالية عن المظلة الأميركية، بصفة خاصة.
هل تستفيق الدول المغاربية، وتعمل على تجسيد الاستقلالية في خيار الشراكات وتبوؤ مكانة جديدة في الهرمية الاستراتيجية المستقبلية للمنطقة؟
بسبب هذا، على المغاربيين، الجزائر والمغرب، تحيّن هذه الفرصة لتحقيق مكاسب استراتيجية، منها الخروج من دائرة التبعية الاستراتيجية لفرنسا، بصفة خاصة، والتوجه، تبعاً لذلك، إلى خيار الشراكات المتعددة والمرنة، استراتيجياً، وأمنياً/ عسكرياً، واقتصادياً، إضافة إلى ضرورة أن يكون ذلك بشرط حيوي، هو التغاضي عن الخلافات (الصحراء الغربية مثلاً) والتوجه، رأساً، إلى بعث البناء المؤسسي التكاملي المغاربي (اتحاد المغرب العربي)، بما يكفل الريادة في التكلف بشؤون غرب المتوسط (الضفة الجنوبية منه) والمنطقة الساحلية – الصحراوية، بعيداً عن أيّ تدخلات دولية أو إقليمية، في ظلّ تواصل الفشل الأوروبي في إدارة تلك الشؤون، وبروز نقاط ضعف يمكن استغلالها لتحقيق مكاسب، وتعظيم المكانة المغاربية عاجلاً، وبصفة حيوية.
تلكم هي قضية الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية الأمنية/ العسكرية، والتي يبدو أنّها متجهة، حتماً، نحو الفشل، لأنّها ليست مكسباً أميركياً ولا هدفاً تريد روسيا والصين تحقيقه، على أرض الواقع، ما يمنح المغاربيين فرصة تاريخية لتعويض الخسائر الناتجة عن إدراك فرنسا للمنطقة (غرب المتوسط والمنطقة الساحلية – الصحراوية) في إطار تبعية واستقطاب يخدم ما تراه يسير في ركب مصالحها، فقط، ويشكل، نتيجة لذلك، تغيراً لصالح المغاربيين في الهرمية الاستراتيجية، والتي تلتقي حالياً، مع هوى أميركي، وإدراك إيجابي روسي وصيني كما تشجعه القوى الإقليمية التي تريد لها دوراً في المنطقة على غرار تركيا.
هل تستفيق الدول المغاربية، وتعمل على تجسيد هذه الاستقلالية في خيار الشراكات وتبوؤ مكانة جديدة في الهرمية الاستراتيجية المستقبلية للمنطقة؟ ذلك ما نرجو وندعو إلى تجسيده، لكنّه يحتاج إلى إدراك، وتخطيط، ثم عمل وحركية استراتيجية جماعية.
محمد سي بشير
العربي الجديد