أنقرة – لم يعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعبأ بالتحذيرات الغربية بشأن قبرص، فقد مرّ إلى خطوة أكثر جرأة تقوم على حل الدولتين، والتحرك لضمان اعتراف دولي بما تسميه تركيا “جمهورية قبرص التركية”، مراهنا على فاعلية استراتيجية الأمر الواقع التي اعتمدتها بلاده في ملفات كثيرة وأثبتت جدواها.
يأتي هذا في وقت لم تعد فيه أوروبا تمتلك أوراق ضغط ذات فاعلية على أنقرة، وتكتفي فرنسا، التي دأبت على معارضة مواقف أردوغان وتحركاته، ببيانات التنديد بعد أن فشلت تحركات سابقة لها في الحد من نفوذ تركيا سواء في شرق المتوسط أو أذربيجان أو ليبيا.
وأعلن أردوغان في كلمة له الأربعاء خلال تبادله تهاني عيد الأضحى أن “المطلب الوحيد للقبارصة الأتراك على طاولة المفاوضات الدولية هو الاعتراف بوضعهم كدولة ذات سيادة”، وأن تركيا ستبذل قصارى جهدها لتحصل هذه الدولة على “اعتراف واسع النطاق بأسرع ما يمكن”.
وأضاف “أما جميع المقترحات الأخرى فقد فقدت صلاحيتها”، في إشارة إلى الصيغ الأممية والأوروبية التي تهدف إلى توحيد الجزيرة.
وكان الرئيس التركي أكد الثلاثاء تمسّكه بحلّ يقوم على دولتين في قبرص خلال زيارة قام بها إلى الشطر الشمالي من قبرص في الذكرى الـ47 للاجتياح التركي الذي أدى إلى تقسيم الجزيرة المتوسطية. كما أعلن عن دعمه إعلان القبارصة الأتراك إعادة فتح مدينة فاروشا المهجورة والتي تعود ملكيتها إلى القبارصة اليونانيين.
وقال أمام حشد خلال عرض عسكري في الشطر الشمالي من العاصمة “ليست لدينا خمسون عاما لنضيعها”، مضيفا أنه “لا يمكن إحراز تقدم في المفاوضات من دون التسليم بوجود شعبين ودولتين”.
ويعتقد مراقبون أن الخطوة الجديدة للرئيس التركي لم تكن لتتم لولا نجاحه في اختبارات سابقة بتحدي الأوروبيين من ناحية والأمم المتحدة من ناحية ثانية، مشيرين إلى أن أردوغان تمكن من فرض الوجود التركي في الجزيرة المقسمة وفي مياهها الإقليمية كأمر واقع، وأن التهديدات المختلفة لم تفلح في تغييره موقفه، وهو ما ساعده على التقدم خطوة أخرى أكثر أهمية بالنسبة إلى استراتيجية تركيا الهادفة إلى توسيع نفوذها شرق المتوسط ولو بقوة السلاح.
واستفاد أردوغان كذلك من تراجع “منتدى المتوسط” الذي كان في ظاهره تجمّعا لمنتجي الغاز في منطقة واعدة، لكن هدفه كان الضغط على تركيا والتضييق على تحركاتها سواء في المياه الإقليمية لقبرص أو تعطيل تنفيذ الاتفاقية التي عقدتها أنقرة مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا في عهد فايز السراج، لكن التحولات الإقليمية خففت من فاعلية هذه الجبهة، وخاصة بعد التقارب التركي – المصري.
ولم تعبأ أنقرة بالضغوط والبيانات الصادرة عن جهات غربية، واستمرت في الاحتفاء بفكرة قيام دولة للقبارصة الأتراك.
ونشرت وزارة الدفاع التركية مشاهد لمقاتلاتها وهي تنفذ عروضاً جوية في أجواء ما أسمته “جمهورية قبرص التركية”، احتفالًا بمناسبة الذكرى السابعة والأربعين للتدخل العسكري التركي في الجزيرة.
وانتقدت فرنسا الأربعاء إعلان سلطات القبارصة الأتراك إعادة فتح فاروشا من أجل احتمال إعادة توطينها ووصفته بأنه عمل “استفزازي”.
وقال القبارصة الأتراك الثلاثاء إن جزءا من مدينة فاروشا سيخضع للسيطرة المدنية وسيتمكن السكان من استعادة أملاكهم فيه الأمر الذي أثار غضب القبارصة اليونانيين الذين اتهموا منافسيهم القبارصة الأتراك بتدبير استيلاء على الأرض خلسة.
وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية إن وزير الخارجية جان إيف لودريان ناقش الأمر مع نظيره القبرصي الثلاثاء وسيثير المسألة في الأمم المتحدة.
وأضاف المتحدث باسم لودريان “فرنسا تشعر بالأسف الشديد إزاء هذه الخطوة الأحادية التي لم يجر التشاور بشأنها والتي تمثل استفزازا وتضر بجهود إعادة بناء الثقة المطلوبة للعودة إلى المحادثات الملحة من أجل التوصل إلى حل عادل ودائم للمسألة القبرصية”.
ويرى متابعون أن أنقرة لم تعد تهتم كثيرا بالمواقف الفرنسية، وخاصة ما تعلق بالتلويح بالعقوبات الأوروبية، فهي تعرف أن باريس تلاقي صعوبات في إقناع عواصم غربية بمثل هذه الخطوة، وذلك لتعارضها مع مصالح دول مثل ألمانيا، ما جعل مسعاها لقيادة أوروبا في وجه التمدد التركي الحديث بلا تأثير.
وبدت هذه المحدودية أكثر وضوحا في معارضة فرنسا التدخل التركي في أذربيجان في مرحلة أولى ثم رفضها اتفاقا غير عادل دفع أرمينيا إلى التنازل عن مساحات شاسعة من منطقة قره باغ المتنازع عليها لصالح أذربيجان. وعارض الاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليونان خطط أردوغان في قبرص.
وقالت وزارة الخارجية التركية إن انتقادات الاتحاد الأوروبي “باطلة ولاغية” لأنها لا علاقة لها بالواقع وتقف إلى جانب اليونان العضو في التكتل. وأعلنت الولايات المتّحدة إدانتها مشروع أردوغان لإعادة فتح فاروشا.
وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في بيان إنّ “الولايات المتّحدة تعتبر ما يقوم به القبارصة الأتراك في فاروشا بدعم من تركيا استفزازياً وغير مقبول ولا يتّفق مع الالتزامات التي قطعوها في الماضي للمشاركة بطريقة بنّاءة في محادثات سلام”.
وأضاف “نحضّ القبارصة الأتراك وتركيا على التراجع عن القرار الذي أعلنوا عنه وعن جميع الخطوات التي اتّخذت منذ أكتوبر 2020” في المنتجع السياحي المهجور.
ومنذ 1974 حين غزا الجيش التركي الثلث الشمالي من قبرص ردّاً على انقلاب نفّذه جنرالات قبارصة يونانيون بهدف ضمّ الجزيرة إلى اليونان، خلت مدينة فاروشا الساحلية من سكّانها وأصبحت منطقة عسكرية مطوّقة بالأسلاك الشائكة تقع تحت السيطرة المباشرة للجيش التركي.
وتُعدّ إعادة فتح هذا المنتجع الساحلي السابق خطاً أحمر للقبارصة اليونانيين. والمفاوضات بين الطرفين بشأن إعادة توحيد الجزيرة متوقفة منذ 2017.
وقال وزير خارجية قبرص نيكوس كريستودوليديس الأربعاء إن بلاده قدمت مناشدة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فيما يتعلق بنقل حق السيطرة على جزء من مدينة فاروشا إلى القبارصة الأتراك.
وأعلن كريستودوليديس عقب اجتماع مع نظيره اليوناني نيكوس ديندياس “هذا انتهاك واضح لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وسيكون له أثر سلبي على الجهود الجارية لاستئناف المفاوضات”.
من جهته اعتبر وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس “إعلان الأمس من الجانب التركي يهدف إلى خلق أمر واقع جديد للقضاء للأبد على احتمال إعادة توحيد قبرص”.
العرب