ما عاد الأمر يتعلق بانسحاب، فلهذا شروطه التي لا تنطبق على ما نراه، أهمها «تحقيق المهمة» التي دخلت من أجلها القوات الغازية، ومنها أيضاً ألا يؤدي الانسحاب إلى فوضى كبيرة، أو عودة الأسباب التي دفعت تلك القوات أساساً إلى غزو البلد المعني، وأن يتسق الانسحاب مع الاستراتيجية العامة المعلنة للفترة القادمة لا أن يتعارض معها.
فالمهمة المذكورة، وهي «القضاء على الإرهاب»، لم تتحقق، ولا يمكنها أن تتحقق على أي حال، ولا تمكنت واشنطن من ترسيخ حكومة كابل الموالية لها وتثبيت سيطرتها وهيمنتها على البلد، على رغم مرور عشرين عاماً على بداية الغزو. لم ينطبق المثل العربي القائل «كأنك يا أبا زيد ما غزيت» على حالة أكثر من انطباقها على المغامرة الأمريكية في أفغانستان. حتى إخراج القوات السوفييتية من أفغانستان الذي تحقق بفضل الدعم الأمريكي للمجاهدين الأفغان، قد يفقد معناه، بعد اتمام الانسحاب الأمريكي، إذا تمكنت روسيا بوتين من العودة إلى أفغانستان كدولة صديقة لحركة طالبان، ليس عسكرياً بالطبع، ولكن في إطار تعاون متعدد الأبعاد. زيارات وفود طالبان إلى موسكو، على رغم وصفها بالمنظمة الإرهابية، تشير إلى هذا التعاون المحتمل منذ الآن.
واضح أن حركة طالبان ليست بوارد تقاسم السلطة مع حكومة كابل كما ترغب بعض الدول الإقليمية المعنية، بل هي تحارب للسيطرة على كامل الأراضي والاستيلاء على السلطة في العاصمة كابل بالذات، كما يظهر من التطورات الميدانية السريعة. وقد تمكنت إلى الآن من السيطرة العسكرية على 85 في المئة من أراضي أفغانستان، في الوقت الذي لا تبدو فيه حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني قادرة على مواجهة زحف حركة طالبان نحو العاصمة. هذا هو السيناريو المرجح بعدما أعلنت حركة طالبان أنها لم تعد معنية باتفاق الدوحة مع الأمريكيين بسبب تراجع هؤلاء عن التزامهم باتمام الانسحاب في الأول من شهر أيار.
صحيح أن بايدن عاد وغير الموعد النهائي لاتمام انسحاب القوات الأمريكية، من 11 أيلول – ذكرى هجمات 2001 على نيويورك وواشنطن- إلى نهاية شهر آب، لكن ذلك لم يثن «طالبان» عن مواصلة الهجوم والسيطرة على المزيد من المناطق. وتسعى الحركة، بموازاة معاركها العسكرية، على خطوط دبلوماسية مع روسيا وإيران لتحييدهما إزاء الصراع الداخلي الأفغاني، ما لم تنجح في كسب ودهما.
شروط الانسحاب «تحقيق المهمة» التي دخلت من أجلها القوات الغازية، ومنها أيضاً ألا يؤدي الانسحاب إلى فوضى كبيرة، أو عودة الأسباب التي دفعت تلك القوات أساساً إلى غزو البلد
في الوقت الذي تدرس فيه دول الجوار الأفغاني مخاطر استيلاء طالبان المحتمل على السلطة، تبدو الولايات المتحدة كأنها هاربة من حريق كبير بلا أي ضمانات لنجاة حكومة كابل الموالية للغرب منه، وكأنها تقول للدول الإقليمية «تسطفلو» فيما بينكم. هو هروب يشبه هروبها من فيتنام في سبعينيات القرن الماضي، مع اختلافات بين الحالتين ليست لصالح الهروب الحالي. فإذا كان شيوعيو فيتنام الشمالية قد استعادوا الشطر الجنوبي بعد انسحاب القوات الأمريكية، في اتساق مع شروط الحرب الباردة في تلك الحقبة التاريخية، فحركة طالبان المرشحة لاستعادة السلطة في أفغانستان لا تندرج ضمن السياق الدولي الراهن، فلا هي جزء من أحد طرفي «الحرب الباردة الجديدة» التي طرفاها واشنطن وبكين، ولا هي جهة «مقبولة» من «المجتمع الدولي»، بل هي منظمة إرهابية وفقاً لإيديولوجيا «الحرب الكونية على الإرهاب»، فضلاً عن كونها حركة إسلامية متشددة لا تقبل بقيم العصر.
ويثير الهروب الأمريكي تساؤلات لا مفر منها عن كيف يمكن لهذا الهروب أن يخدم استراتيجية تطويق الصين المعلنة؟
مقابل الهروب الأمريكي الكبير، تبدو الموافقة المبدئية لتركيا على بقاء قواتها في العاصمة لتأمين مطارها الدولي أقرب إلى ورطة كبيرة قد تكلفها الكثير. هناك مباحثات جارية بين وزارتي الدفاع الأميركية والتركية بشأن تفاصيل هذا المشروع. وقد أصدرت حركة طالبان بياناً هددت فيه القوات التركية، بصراحة، في حال وافقت فيه على بقاء قوة عسكرية تركية لحماية مطار كابل الدولي. «سنعتبرها قوة احتلال» قال بيان طالبان «ونتعامل معها تعاملنا مع أي قوة احتلال أخرى» داعياً القيادة التركية إلى مراجعة موقفها بهذا الشأن، بما يتسق مع العلاقات الطيبة بين الشعبين الأفغاني والتركي اللذين يجمعهما الدين والمذهب، كما قال البيان.
الخبير التركي في العلاقات الدولية إلهان أوزغل لخص موقف تركيا بالقول إن أنقرة تفاوض «المنسحبين» من أفغانستان على شأن يخص هذا البلد، بدلاً من التفاوض مع «القادمين» إلى السلطة هناك، أي حركة طالبان. الأمر الذي تفعله كل من إيران وروسيا.
من نافل القول إن المعارضة التركية ليست راضية عن قرار محتمل بشأن مطار كابل من شأنه أن يرمي بالجنود الأتراك إلى النار، كما سبق وحدث في الحرب الكورية في مطلع الخمسينيات. المشاركة التركية في تلك الحرب شكلت نوعاً من عربون تودد لحلف شمال الأطلسي أدى إلى قبوله انضمام تركيا إليه. في حين أن موافقة محتملة على مهمة حماية مطار كابل الدولي ينظر إليها وكأنها بمثابة عربون تودد لواشنطن بعد طول جفاء. فإذا أضفنا إلى الانسحاب الأمريكي، انتهاء مهمة حلف شمال الأطلسي في أفغانستان، منذ الآن، اتضح حجم المخاطر المحتملة على المهمة التركية، ما لم تتبنها حركة طالبان نفسها.
بكر صدقي
القدس العربي