مرّت الأقلّية الإيزيدية خلال العشرية الماضية بأحلك حلقة في تاريخها المعاصر عندما تعرّضت مناطقها لغزو تنظيم داعش لدى استيلائه على مساحات شاسعة من شمال العراق وغربه وعانى أبناؤها نساء ورجالا ومن مختلف الأعمار بما في ذلك الأطفال أشكالا بشعة من الإرهاب تراوحت بين القتل والأسر والاغتصاب والاسترقاق.
ورغم أنّ كثيرين من أبناء تلك الأقلية تمكّنوا من النفاذ بسلام من “المحرقة” وتسلّطت الأضواء الدولية على مأساتهم وحصلوا على اعتراف دولي ومحلّي بتعرضهم لإبادة جماعية، إلاّ أن الماضي الأليم لم يصبح بالكامل خلف ظهورهم بل مازالوا يكابدون تبعاته في واقعهم اليومي المعيش عاجزين عن استئناف حياتهم بشكل طبيعي وضمان مستقبل لأبنائهم، فضلا عن الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية والدينية، وذلك بسبب عجز الدولة العراقية عن الإيفاء بالتزاماتها تجاههم وتوفير الحدّ الأدنى لهم من ضروريات الحياة والأمان اللازم لاستقرارهم في مناطقهم.
وإذا كانت وطأة الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية العامة التي يعيشها العراق أشدّ على الإيزيديين، فإن أوضاع هؤلاء لا تمثّل استثناء كبيرا من أوضاع عامة العراقيين الذين يعانون تبعات تجربة الحكم الفاشلة والفاسدة من فقر وبطالة وانعدام للخدمات العامّة في كثير من المناطق فضلا عن عدم الاستقرار الأمني.
مناطق الإيزيديين تعج بالاضطرابات السياسية ذات الانعكاسات الأمنية ما يجعلها غير مستقرة وغير صالحة للعيش الآمن
وبمثل هذه الظروف تحوّل العراق على مدار تجربة الحكم التي انطلقت قبل حوالي ثمانية عشر عاما بقيادة الأحزاب الطائفية إلى بلد ينوء بتنوعه العرقي والديني والطائفي بدلا من أن يَغْتَني به، كما تحوّل إلى كيان طارد لأقلّياته نحو الهجرة خارجه وهو ما ينطبق كأوضح ما يكون على المسيحيين العراقيين الذين ما تزال أعدادهم تشهد تناقصا مستمرا يُخشى معه أن يفضي إلى انطفاء وجودهم في البلد بشكل كامل، بينما الإيزيديون مرشّحون بقوّة لاتباع نفس الطريق فيما لو فتحت أمامهم أبواب الهجرة.
عودة كاللاّعودة
في الثالث من شهر أغسطس 2014 شن عناصر تنظيم داعش هجمات وحشية على قضاء سنجار ما أدى إلى تشريد مئات الآلاف من النازحين من الأقلية الإيزيدية التي تعرضت لجرائم وصفتها الأمم المتحدة لاحقا بالإبادة الجماعية وتضمنت القتل بالرصاص والذبح والاستعباد الجنسي للنساء والفتيات.
وبعد مرور نحو سبعة أعوام على نزوحهم يوضح تقرير لموقع بي بي آس (خدمة الإذاعة العامّة) أن الكثير من الإيزيديين يشعرون باليأس من إعادة إعمار ما دمرته الحرب من بنية تحتية ومرافق عامة وخاصة بما في ذلك الدور السكنية.
وعمد تنظيم داعش بحسب إحصائيات الأمم المتحدة إلى استرقاق أكثر من 6500 من النساء والأطفال وتسبب العنف بتشريد أكثر من 350 ألفا في مخيمات النزوح شمالي العراق.
ولا يزال أكثر من 120 ألفا ممن عادوا إلى ديارهم يواجهون مصاعب تحول دون إعادة بناء حياتهم كما يعيش غالبية الأفراد دون خدمات حيوية منذ صيف عام 2014 بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم ودعم سبل العيش.
ويقدر السكان المحليون أن هناك ما يصل إلى 80 مقبرة جماعية في منطقة سنجار حيث عثر على خمسة منها فقط في قرية حردان الصغيرة، والتي ضمت حوالي 150 جثة. وقد بدأت عمليات استخراج الجثث وتم حتى الآن التعرف على أكثر من 100 جثة ودفنها في عملية بطيئة خلّفت مشاعر حزن وألم للكثير من ذوي الضحايا.
وفي هذا الصدد يقول شُكور ملحم الضابط في الجيش العراقي وهو من أبناء الأقلية الإيزيدية إن ما يحدث بشأن إهمال العثور على المقابر الجماعية والكشف عن أسماء الضحايا هو إهمال حكومي ودولي، مضيفا “أمّة بأكملها تعرضت للذبح والتشريد ولا أحد يهتم بنا”.
وعن ذكرياته الأليمة عندما اجتاح تنظيم داعش مناطق الإيزيديين يقول ملحم “لجأت زوجتي الحامل مع أولادي السبعة إلى الجبال للنجاة بحياتهم وهناك ولدت طفلتي التي أسميتها شنكال” وهو الاسم الكردي لمنطقة سنجار.
ويضيف “من المستحيل على الإيزيديين البدء بإعادة بناء حياتهم هنا حتى يعرفوا مصير أحبائهم على وجه اليقين فلا يزال الكثير منا لا يعرف مصير المفقودين من أطفالهم وأسرهم وهل هم أحياء أو لا يزالون في قبضة ما بقي من خلايا داعش”.
ويتابع “لذلك ليس من المستغرب أن يتألم الناس ويشعروا أنهم قد جرى التخلي عنهم. فأنت عندما تموت تموت مرة واحدة أما من فقد أحبّاءه ولا يعرف عنهم أي شيء فإنه يموت في اليوم مئة مرة”.
وكانت الحكومة العراقية قد أقرت عبر سن قوانين ومراسيم أن ما حدث للإيزيديين هو إبادة جماعية مما يمهد لحصولهم على مساعدات ومعونات بالإضافة إلى إعادة إعمار منازلهم ومناطقهم.
لكن خليل مراد مشو وعائلته لازالوا حتى اللحظة عاجزين عن بناء منزلهم الذي دمره المتطرفون بالديناميت وقد اضطر لنصب خيمة لعائلته قبل تسعة أشهر لتعيش فيها على أمل أن تعيد السلطات بناء بيت لهم.
وهو يقول بأسى “من الصعب حقا أن تعيش في خيمة وأن ترى منزلك أمام ناظريك في حالة خراب وأقلّ ما نخاف منه هو الثعابين والعقارب التي تختبئ تحت هذه الأنقاض”، ليتوصّل إلى النتيجة المثيرة للقلق واليأس ويتقاسمها غالبية أبناء الأقلية الإيزيدية ويلخّصها مشو بالقول “ليس لدينا مستقبل ولا يمكننا استعادة حياتنا القديمة مرة أخرى. ومن الصعب حقا إنشاء منزل هنا”.
صدام الأجندات
ثمانون مقبرة جماعية في منطقة سنجار عثر على خمسة منها فقط وضمت حوالي مئة وخمسين جثة
ليس فقط نقص الموارد هو ما يعيق عودة الإيزيديين إلى مناطقهم واستئناف حياتهم فيها بشكل طبيعي، بل يؤكّد كثيرون منهم أن تلك المناطق أضحت تعج بالاضطرابات السياسية ذات الانعكاسات على الأوضاع الأمنية ما يجعلها غير مستقرة وغير صالحة للعيش الآمن.
فبعد القضاء على داعش لا تزال تنتشر قوى عسكرية بأجندات مختلفة تخلق أجواء مضطربة، فبالإضافة إلى القوات الحكومية العراقية هناك ميليشيات الحشد الشعبي وقوات البيشمركة الكردية وعناصر حزب العمال الكردستاني الكردي الذي يعرّض وجوده في مناطق الإيزيديين وفي سنجار تحديدا السكان المحليين للغارات الجوية التركية التي تكثّفت بشكل كبير في ظل إصرار تركيا على ملاحقة الحزب الذي تصنّفه تنظيما إرهابيا في كل مكان بالعراق أملا في اجتثاثه.
وفي محاولة لضبط الأوضاع في سنجار وإنهاء ذريعة التدخل التركي هناك أبرمت الحكومة العراقية في شهر أكتوبر من العام الماضي اتفاقا مع حكومة كردستان العراق لحل المشكلات القائمة بالقضاء الواقع غربي مدينة الموصل مركز محافظة نينوى شمالي العراق.
ونصّ الاتفاق على ضمان حفظ الأمن في القضاء من قبل قوات الأمن الاتحادية بالتنسيق مع قوات إقليم كردستان العراق وإخراج كل الجماعات المسلحة غير القانونية إلى خارج القضاء وفي مقدّمها حزب العمال الكردستاني.
لكنّ الاتّفاق الذي ظل تطبيقه يراوح مكانه منذ ذلك الحين أثار حفيظة الميليشيات الشيعية مخافة أن يُحدث سابقة في مجال بسط سيطرة القوات النظامية على مختلف مناطق العراق، لاسيما تلك الواقعة بشمال البلاد وغربها والتي خضع بعضها لسيطرة ميليشيات الحشد الشعبي بعد استعادته من تنظيم داعش في الحرب التي دارت ضدّه بمشاركة الحشد بين سنتي 2014 و2017.
ويُفقد الاتفاق الذي نصّ ضمن بنوده على أنّ يدخل كل ما هو أمني في سنجار ضمن نطاق صلاحيات الحكومة الاتحادية بالتنسيق مع حكومة إقليم كردستان الميليشيات الشيعية العراقية الموالية لإيران ميزة السيطرة على نقطة مهمّة من المحور الواصل بين الأراضي العراقية والسورية.
وفي حال نجاح تجربة إخلاء سنجار من الجماعات المسلّحة، فإنّ أصوات المطالبة بإخراج قوات الحشد الشعبي من الأقضية والبلدات والمدن التي دخلتها أثناء الحرب على داعش سترتفع مجدّدا مدعومة بامتعاض الأهالي من سوء سلوك ميليشيات الحشد والعراقيل التي تضعها تلك الميليشيات في طريق عودة النازحين إلى مواطنهم الأصلية.
وعلى هذه الخلفية اصطدم الاتّفاق بشأن سنجار باعتراضات قوية من قبل الميليشيات الشيعية والقوى السياسية المرتبطة بها.
وانصّبت الاعتراضات أساسا على دور سلطات إقليم كردستان في الاتّفاق على أساس أنّه يفتح الطريق لإعادة قوات البيشمركة الكردية إلى مناطق بشمال العراق كانت قد طردت منها في إطار الإجراءات العقابية التي اتّخذتها حكومة بغداد ضدّ الإقليم بعد أن أقدمت قيادته السياسية على تنظيم استفتاء على استقلاله عن الدولة العراقية سنة 2017.
وبعد استعادة سنجار من تنظيم داعش تسرّب مسلّحو حزب العمال الكردستاني إلى القضاء وأقاموا معسكرات لهم داخله، ما جعل تركيا تشن عمليات عسكرية خاطفة في سنجار بدعوى ملاحقة تلك العناصر.
ومع سياسة التمدّد خارج الحدود التي تنتهجها تركيا بقيادة زعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان أصبح عدم قدرة العراق على ضبط الجماعات المسلّحة على أراضيه ذريعة مناسبة لتركيا للتدخل عسكريا داخل الأراضي العراقية، على غرار ما تقوم به في سنجار وعدد من مناطق إقليم كردستان حيث أطلقت سلسلة من العمليات العسكرية واسعة النطاق داخل الأراضي العراقية دون تنسيق مسبق مع حكومتي بغداد وإربيل.
ولا تزال غالبية الإيزيديين المصابين بصدمات من القتل الجماعي والاستعباد الذي مارسه عليهم تنظيم داعش غير واثقين في السلطات العراقية التي يقولون إنها تخلت عنهم أمام وحشية المسلحين. ويخشون من سيطرة الميليشيات عليهم بما في ذلك الفصائل الشيعية المدعومة من إيران لضعف الحكومة المركزية.
أمل أخير قبل الهجرة
بالإضافة إلى مختلف تلك المشاكل السياسية والأمنية يعتمل صراع طائفي وعرقي في مناطق الإيزيديين مترتّب عن حقبة داعش القاتمة حيث يتّهم كثيرون من سكّان تلك المناطق العربَ السنّة بدعم التنظيم المتشدّد الذي تصادم هؤلاء العرب منذ سقوطه مع الميليشيات الإيزيدية وقُتل عدد منهم. وفي نفس الوقت يرفض العديد من الإيزيديين البيشمركة جيش أكراد العراق الذين يعتبرون منطقة سنجار جزءا من أراضيهم.
ويقول الخبير في الشؤون العراقية سجاد جياد لوكالة أسوشيتد برس إن الأمم المتحدة ركزت على عودة النازحين الإيزيديين، لكن هذا ليس المعيار الوحيد للنجاح. إذ أن الأمر يتعلق بالخدمات والمدارس والأمن والقدرة على التنقل دون أن يتعرض المرء لتهديد مجموعات مختلفة. واعتبر هذا اختبارا لفعالية الحكم بعد الحرب، متسائلا “هل الحكومة مستعدة بما يكفي للسماح بعودة الحياة الطبيعية”.
وأظهر استطلاع حديث أجراه معهد السلام الأميركي أن ثلاثة وخمسين في المئة من سكان سنجار، وجميعهم عائدون من النزوح لا يشعرون بالأمان في المنطقة، ويعتقد ستة وتسعون في المئة أنهم معرضون لخطر العنف والقتل.
أكثر من نصف سكان سنجار العائدون لا يشعرون بالأمان وتعتقد غالبيتهم العظمى أنها معرضة لخطر العنف والقتل
وتقول ليلى إنها التقت في المخيم بابنتيْ أختها شيماء وسهيلة بعد أن قضت أعواما وهي مستعبدة جنسيا في أوكار داعش بين سوريا والعراق.ومع ذلك لا تبدو البدائل المتاحة أفضل من الوضع القائم بحسب رأي الكثير من الإيزيديين إذ أن ما يقرب من 200 ألف منهم يعيشون في مخيمات نزوح في شمال العراق. ومن تلك المخيمات مخيم شاريا بالقرب من مدينة دهوك في إقليم كردستان العراق حيث لجأت ذات مرة الناجية الإيزيدية من أسر داعش ليلى تالو وعائلتها.
وكانت ليلى قد فقدت زوجها عند هجوم قبل بضعة أعوام وكان عمرها آنذاك 25 عاما وتأمل أنه تجده يوما ما ليضم في أحضانه ابنهما الذي استطاعت أن تنقذه مع أخته من معسكرات داعش.
وتؤكّد أنه لا يوجد مكان تود العيش فيه سوى سنجار موضحة “لا أشعر بالغربة في مكان من العراق لكن سنجار تبقى أرضنا”.
وفيما إذا كانت ستفكر في مغادرة العراق كما فعلت ابنتا أختها اللتان لجأتا إلى أستراليا، تقول “لا يزال لي بعض الأمل بأن تحقق الحكومة العراقية وعدها بإعادة إعمار سنجار وتهيئة الظروف المناسبة لعودتنا”، مستدركة بالقول “نريد أن نعيش حياة طبيعية هذا ليس طلبا كبيرا، ونريد فقط معلومات عن المفقودين وإعادة بناء سنجار.. لقد مرت سبع سنوات ومازلنا نعيش في المخيمات، فإلى متى سيستمر هذا الوضع وإلى متى سنبقى مهجرين في وطننا”.
صحيفة العرب