ينتظر التونسيون أن يكشف لهم الرئيس قيس سعيّد عن هوية رئيس الحكومة الجديد، وتحديد ملامح خريطة الطريق العتيدة. الغموض لا يزال سيد الموقف، رغم أن البلاد تشهد وضعاً هادئاً، ودواليب الدولة تسير بشكل طبيعي. لكن مع ذلك، لا يتوقف التونسيون عن طرح الأسئلة في جميع الاتجاهات، ودراسة الاحتمالات والسيناريوهات الممكنة. ويستوي في هذا الأمر من اعتبروا أن ما حدث هو “انقلاب”، ومن يعتقد بأن حراك سعيّد “حركة إنقاذ” للدولة والبلاد.
وحيال هذا الانقسام، لا يزال عدد من الشخصيات والأحزاب السياسية متمسكين بالطعن في شرعية القرارات التي اتخذها رئيس الدولة، لكن الطيف الواسع من هذه الأطراف بدأ بالتأقلم تدريجياً مع الوضع الجديد، سواء من خلال مواقف الاصطفاف وراء سعيّد، أو بالقول إن ما حصل فرضته “الضرورة”، وأن المطلوب حالياً هو دعوة رئيس الجمهورية بأكثر ما يمكن من الضمانات، حتى لا يؤثر ذلك على الحريات والديمقراطية.
لم تكن النهضة مهيأة لمواجهة مثل هذا السيناريو بغياب الخطط البديلة
بالنسبة لحركة “النهضة”، الطرف الأكبر والأثقل وزناً في البرلمان، فقد أدخلتها الصدمة في حالة ارتباك غير مسبوقة. ولم تكن الحركة مهيأة لمواجهة مثل هذا السيناريو، في ظلّ عدم امتلاكها خطة بديلة، رغم صراعها السياسي الطويل مع ساكن قصر قرطاج. فقيادتها لم تتوقع أن ينجح رئيس الجمهورية في نسج تحالف قوي مع المؤسسة العسكرية، رغم أن هذه العلاقة كانت تتطور وتتوثق في العلن وأمام الجميع. ولهذا السبب كان وقع القرارات قوياً على راشد الغنوشي، بصفته رئيساً لحركة “النهضة” وللسلطة التشريعية (البرلمان)، خصوصاً عندما منعه الجنود من دخول مقرّ الأخير، فاضطر إلى أن يقضي بقية الليل داخل سيارته، في حركة احتجاجية لم تغير شيئاً من الواقع.
في تلك اللحظات، مثلت أمام الرجل تجربتان مختلفتان في الخصوصية والنتائج. تمثلت الأولى في التجربة المصرية، حين قرر الإخوان المسلمون مواجهة عبد الفتاح السيسي بالصمود والتمرد، فكان حصاد ذلك مراً ومكلفاً، وأدى إلى خروجهم من المعادلة السياسية، وعادوا من جديد إلى حالة التيه. أما التجربة الثانية فهي الحالة التركية عندما انحازت الجماهير التركية ضد محاولة الانقلاب في 15 يوليو/تموز 2016، والتفّت حول الرئيس رجب طيب أردوغان، لتبقى الشرعية ويفشل الانقلاب.
في تونس لم تنزل الجماهير بأعداد معتبرة إلى الشارع دفاعاً عن الديمقراطية والشرعية كما دعاها إلى ذلك رئيس “النهضة”، بل نزلت أعداد أكبر منها لتعبّر عن فرحتها بالإجراءات الجديدة وتنحاز إلى سعيّد، لهذا قرر الغنوشي بعد 20 ساعة من الاعتصام دعوة أنصاره إلى الانسحاب من حول البرلمان، استعداداً لخوض المعركة بأسلوب آخر. وهكذا كسب سعيّد الجولة الأولى من تنفيذ خطته الاستثنائية.
في غضون ذلك، تواصلت سياسة التطبيع مع الوضع الجديد بعزل عدد من الوزراء والمسؤولين السابقين والإداريين والأمنيين. كما يجري البحث عن أسماء بديلة ليكونوا “رجال الرئيس” في المرحلة الجديدة. فسعيّد يريد أن يحيط نفسه بأشخاص موثوق بهم، لأن تجربته السابقة خيّبت توقعاته. ولعل هذا الأمر يفسر عدم تسرّعه في تعيين رئيس الحكومة الجديد والفريق الوزاري الذي سيعمل معه. كل هؤلاء يجب أن يوافقوا على أن يكونوا فريقاً منسجماً ومنضبطاً ومطيعاً لرئيس الجمهورية الذي سيتولى رئاسة مجلس الوزراء، لتكون الحكومة حكومته بكاملها. بالتالي، ما يحصل حتى الآن بمثابة مسار دؤوب من أجل تحويل النظام والانتقال به من نظام شبه برلماني إلى نظام رئاسي، يجمع فيه قيس سعيّد كل السلطات بيده.
يثير الحرص الرئاسي على مركزية السلطة مخاوف كثيرين
ويثير هذا الحرص الرئاسي على مركزية السلطة مخاوف الكثيرين، بمن فيهم أولئك الذين أيّدوا الاجراءات الرئاسية الأخيرة. فالمسافة بين النظام الرئاسي والنظام الرئاسوي قصيرة جداً. ويمكن أن يكون النظام الرئاسي ديمقراطياً، لكن إذا مُنحت كل السلطات للرئيس، فعندها لن تمنع الحواجز من الوقوع في الاستبداد. وهو أمر تخشى العديد من الدول الغربية حصوله في تونس، مما جعلها تطالب بلغة دبلوماسية قيس سعيّد بالعودة إلى الشرعية الدستورية والديمقراطية في أقرب الأوقات. كما طالبته أيضاً بالتعجيل في تعيين رئيس جديد للحكومة، للتأكد من قدرته على إدارة الوضع الاقتصادي والمالي بشكل جيد، وهو أمر تهتم به مؤسسات التمويل الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، الذي أجّل موعد استئناف المفاوضات، في انتظار الكشف عن رئيس حكومة وعن وزير الاقتصاد.
وفي ضوء ما تقدم، ينتظر الجميع بشغف، وأحياناً بقلق، الخطوات التالية التي ينوي سعيّد القيام بها خلال الأيام المقبلة. وهي الخطوات التي ستحدد ملامح الوضع السياسي الجديد، الذي ستحدد فيه جميع الأطراف مواقفها واستراتيجياتها وتحالفاتها. وسيُعرف إلى أي مدى سيتمكن قيس سعيّد من التسيير المباشر والفعلي واليومي لشؤون الدولة، في ظل أوضاع متحركة شديدة الصعوبة ومفتوحة على كل الاحتمالات.
العربي الجديد