بايدن والكاظمي: ما حدود اللعبة المزدوجة؟

بايدن والكاظمي: ما حدود اللعبة المزدوجة؟

في 26 من الشهر الماضي اُختتم الحوار الرابع والأخير فيما سُمي «الحوار الستراتيجي» بين بغداد وواشنطن. صدر البيان العراقي الأمريكي المشترك ليحدد ما تم الاتفاق عليه من أن (العلاقة الأمنية سوف تنتقل بالكامل إلى دور خاص بالتدريب وتقديم المشورة والمساعدة وتبادل المعلومات الاستخباراتية). وقد وصفت صحيفة نيويورك تايمز الاتفاق الجديد على أنه ليس سوى «مسرحية دبلوماسية». فهل حقا هو كذلك؟ أم أنه نصر مؤزر وأختراق ستراتيجي كبير كما رأه رئيس الوزراء وبعض أعوانه في الحكم؟
لا شيء جديد على الإطلاق. كأن الرئيس الأمريكي جو بايدن كان يسأل عامله في بغداد رئيس الوزراء العراقي: ماذا تريد الميليشيات التابعة لإيران منك أن تفعل؟ إنهم يريدون الانسحاب الأمريكي من العراق فقط على الورق سيادة الرئيس. فيجيبه بايدن: سنكتبها لهم في البيان أذن.
لقد كان ما تم الإعلان عنه متوقعا ومعروفا منذ ما قبل الحوار الأخير. ولم يستطع وزير خارجية العراق أن يقنع الأوساط السياسية والإعلامية في واشنطن حينما قال «توصلنا إلى قناعة بعدم ضرورة وجود القوات الأمريكية في بلادنا» لأن المفارقة كانت كبيرة في الشطر الثاني من أجابته وهو يقول إن الحاجة للأمريكان ستظل قائمة في ظل استمرار خطر تنظيم «الدولة» والحاجة للدعم العسكري من واشنطن. وما يقوله في هذا الشطر من الإجابة ليس جديدا كذلك لأن الرئيس الأمريكي بايدن كان قد صرح به منذ وصوله إلى البيت الأبيض بأن القوات الموجودة في العراق هدفها الأساسي مكافحة تنظيم «الدولة» ومهمتها الأخرى تقديم المشورة. وهذه المقاربة لم تتغير وكل ما جرى هو مجرد تأسيس على كلمة قوات قتالية وأن الانسحاب سيشمل هذه القوات. وإذا نظرنا إلى واقع الحال فإن القوات الموجودة اليوم في العراق هي ليست قوات قتالية، وبذلك كان لقاء رئيس الوزراء العراقي بالرئيس بايدن لقاء رمزيا أكثر مما هو فيه نتائج فعلية، لكن ماذا كان يريد مصطفى الكاظمي من هذا اللقاء؟

مصلحة الكاظمي مرتبطة بالإعلان عن جدولة شكلية لانسحاب القوات الأمريكية لتخفيف قبضة الميليشيات عليه

إن جل ما كان يريده رئيس الوزراء العراقي من لقائه بالرئيس الأمريكي هو أن يدلي بايدن برفقته وأمام الصحافيين بتصريح داعم له كي يكون لديه موقف سياسي واضح في العراق. كانت مصلحته الشخصية مرتبطة بالإعلان عن جدولة شكلية للانسحاب لتخفيف قبضة الميليشيات عليه والتي راحت تهدده أكثر من مرة وتطيح بهيبته. لقد كان الرجل يسعى جاهدا لهذا الدعم والحصول على الجائزة من بايدن لأنه حتى زيارة الملك عبدالله عاهل الاردن كانت فيها رسالة إلى بايدن بضرورة دعم الكاظمي لأنه اليوم كما تروج له بعض الأوساط هو الوجه الأبرز والأنسب للتوازن بين أمريكا من جهة وإيران وميليشياتها من جهة أخرى، وإيجاد صيغة توافقية بين الاثنين ولا أحد يتحدث عن مصلحة العراق. وهنا مكمن الخطر الحقيقي على مستقبل البلد. فهذا يعني أن رئيس السلطة التنفيذية سيكون دوره دور العميل المزدوج في اللعبة الاستخباراتية الجارية بين واشنطن وطهران، وعمله سيبقى محصورا بتنفيذ التكليفات من هذا الطرف وذاك الطرف، ونصب مصائد المغفلين ووضع أسلاك التعثر لهذه الدولة ضد الدولة الأخرى، ونقل الرسائل المفبركة والمعلومات المموهة بينهما. ولأن الواقع العراقي معروف حيث هنالك صعوبة كبيرة في السيطرة على الميليشيات التابعة لإيران. وهذا وأضح من خلال الهجمات المتعاقبة على الأصول الأمريكية وآخرها سقوط صاروخين من نوع كاتيوشا قرب السفارة الأمريكية في بغداد فجر يوم 29 يوليو/ تموز المنصرم بالتزامن مع عودة الكاظمي من زيارته إلى واشنطن فإن الضغط الأمريكي عليه سيدفع بإيران لتحريك سلطتها الموازية ضده وخلق حالة من الاضطراب التام في الساحة العراقية بهدف إشغال الولايات المتحدة. أمام هذه الصورة الملتبسة هل حقا تسعى الولايات المتحدة للانسحاب من العراق؟
إن آخر ما تريده الولايات المتحدة هو الانسحاب من العراق، فهي مازالت تنظر إليه على أنه قُمرة القيادة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، ولديها فيه مصالح جيوسياسية واقتصادية وأمنية. كما أنهم يقولون بأن أنهيار الدولة العراقية يهدد النظام العالمي والاستقرار في الشرق الأوسط وهو مركز التقاطعات العسكرية والسياسية بينها وبين إيران. فهذه الخطوة تعزز مخاوفها على قواتها في سوريا خاصة وأن الخروج من هناك ليس على جدولها الآن، كما أن الإدارة الحالية تعرف تماما حدود النفوذ الإيراني السياسي والاقتصادي والأمني في العراق وهي لا تريد أن يستمر الوضع لصالح طهران. يضاف إلى ذلك أن العودة إلى الاتفاق النووي بصيغة العام 2015 أصبح يتعارض مع أراء الطبقة السياسية في الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. وبدأ هؤلاء بالضغط على إدارة بايدن لعدم الذهاب في هذا الاتجاه مما سيجعل الوصول إلى اتفاق ليس بالسهولة التي كانت متوقعة. والمشورة الأخيرة جاءت من الغرفة الاستخباراتية المشتركة وتقول بأن تنظيم «الدولة» مازال قادرا على الحركة والمباغته وأن خلاياه النائمة قادرة على الفعل. مثال على ذلك التفجير الذي حدث في بغداد عشية عيد الأضحى مما يعني عدم إمكانية إعطاء شهادة قدرة للقوات العراقية العسكرية والأمنية. وبذلك يكون الإعلان عن الانسحاب من العراق نهاية العام الحالي مجرد مسرحية وإعلان رمزي يفتقر للمصداقية. والقول بأن القوات الأمريكية بعد هذا التاريخ ستكون استشارية كان قد أعلن عنه الرئيس السابق ترامب في العام 2017. لكن بايدن يريد من وراء هذا الإعلان تحويل الانتباه عن الشرق الأوسط إلى الانتباه لما يسميه تهديات الصين والحرب السيبرانية.
إن ما يجب قوله وبوضوح أن أولوية واشنطن في منطقة الشرق الأوسط هي إيران. ولأن الأخيرة موجودة في بنية الدولة العراقية وبنية العملية السياسية فإن واشنطن مقتنعه تماما بأن تنسيق وتنظيم علاقاتها مع إيران يتم على مائدة بغداد. وقد أثبتت الأحداث منذ العام 2005 وحتى اليوم بأن رئيس الجمهورية في العراق يتم تعيينه من قبل طهران وواشنطن، وكذلك تعيين رئيس الوزراء، وحتى رئيس البرلمان محكوم وصوله إلى الكرسي بهذا التوافق. وعليه فإن الولايات المتحدة وإيران قد أصبح لديهما تراكم خبرة في الإدارة المشتركة لهذا البلد ولم يعد بالإمكان ترك إدارته لحساب طرف واحد من هذه المعادلة.
إن نوط الشجاعة، الذي ظن رئيس الوزراء العراقي أنه حصل عليه من بايدن في اللقاء الأخير في واشنطن، لن يكون بطاقة حمراء يستطيع أن يخيف بها الأذرع الإيرانية ويقول لهم بصوت عال: أنا الزعيم. فالزعامة السياسية تتحقق عندما يكون رجل الدولة لديه غريزة المستقبل ويرى طريقا للوصول إليه بأمان وبما يملك هو لا بما يملكه الآخرون في واشنطن وطهران.

مثنى عبدالله

القدس العربي