أعادت وسائل إعلام تونسية وعربية نشر مقابلة قديمة للرئيس التونسي قيس سعيد ظهرت يوم 12 تموز/يوليو 2019 أي أيام ترشحه لمنصب الرئاسة، قال فيها إنه «يسعى لإلغاء الانتخابات البرلمانية» واعتماد آلية أخرى «لتصعيد نواب للبرلمان من المجالس المحلية بالقرعة» ويؤكد فيها أنه سيحارب دعم الجمعيات (أي منظمات المجتمع المدني) «لأنها مطيّة للتدخل في شؤوننا».
إضافة إلى ذلك فقد صرح سعيّد في تلك المقابلة أن برنامجه الانتخابي يقوم على «فكر سياسي يترجمه نص دستوري بالفعل جديد» وعلى أن الانتخابات ستقتصر على الرئاسة والمحلّيات، وأن تلك الرؤية قابلة للتنفيذ «حتى ترتقي الأمة إلى مستوى أمانيها» مضيفا أنه «بعد الثورة التي وصلت على مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة صارت (الأحزاب) على هامش الدنيا» وأن «عهد الأحزاب انتهى» و«مآلها الاندثار… مرحلة وانتهت في التاريخ».
يمثّل وصول هذا الأكاديمي القادم من خارج الأضواء السياسية، إلى سدة الرئاسة، وتغلبه على منافسيه المخضرمين (سياسيا كمرشح حركة «النهضة» وماليا، عبر تنافسه مع رجل الأعمال الكبير نبيل القروي) نجاحا ملفتا.
كما جاء هذا الفوز تصديقا لتصريحاته حول دور وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة، فقد استندت حملته الرئاسية على مئات النوادي الشبابية الموزعين على مناطق تونس، والتي لعبت دورا حاسما في نجاحه، لاعتمادها وسائل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وهو ما يفسّر، من جهة، حديثه عن حلول تلك الوسائل محل الأحزاب، وحماسه، من جهة أخرى لفكرة «تصعيد نواب البرلمان من المجالس المحلية».
غير أنه إذا كان الفوز عبر تنسيق مبادرات الشباب، واستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة قد نجح في إيصال سعيد إلى منصبه فإن ما حصل بعدها يشير إلى أن الرئيس التونسي بدأ عمليا في تطبيق «رؤيته» وأنه لم ينتظر العوامل الطبيعية لحدوث «اندثار الأحزاب» ودخولها الهامش بل بدأ ملامح عملية كبرى لتغيير الاجتماع السياسي في تونس، عبر تهميش الأحزاب وإضعاف البرلمان ووضع السلطات العسكرية والأمنية في قبضته، وهو ما يعادل، في مصطلحات العلوم السياسية، بوادر انقلاب.
إضافة إلى ذلك فقد أعلن سعيّد وقوف «دول شقيقة» مع حركته، قائلا إنها تقوم بالدعم الاقتصادي والأمني، وتناظر ذلك مع إعلان تلك الدول «الشقيقة» تأييدها لحركة سعيّد، وهو ما استدعى ردودا من اتجاهات سياسية ونقابية في البلاد، وعلى رأسها الاتحاد التونسي العام للشغل، الذي كان أحد الأطراف التونسية الكبرى التي أبدت «تفهما» لحركة سعيّد، حيث انتقد ما اعتبره دخول تونس «سياسة المحاور».
تقدّم عملية تجميع السلطات في يدي سعيّد، وتجميد البرلمان، وصدور أوامر الاعتقال ضد نواب ومسؤولين، والتهديدات باستخدام السلاح ضد معارضي إجراءاته، تطبيقا لـ«الرؤية» التي قدّمها في حملته الانتخابية، وهي رؤية خطيرة لأنها تذكر بتجارب سياسية أخرى، في ليبيا معمر القذافي، الذي حظر الأحزاب وشغل الليبيين بـ«مجالس شعبية» هدفها الرئيسي تأييد القائد وتأبيده، وفي عراق وسوريا «البعث» حيث يقوم الرئيس، مطلق الصلاحيات، بإنهاء الأحزاب فعلا، بما فيها «الحزب القائد» الذي لا يتعدى كونه جهاز أمن وقمع واسع، وإذا نجح الرئيس التونسي فعلا في تطبيق «رؤيته» تلك، فسيتم إنهاء الاستثناء الديمقراطي التونسي، وتعود البلاد جزءا فاعلا في منظومة الاستبداد والخراب العربية.
القدس العربي