هل هناك تناقض بين الهوية الوطنية التقليدية وبنية الدولة الوطنية الحديثة، دولة المواطنة والقانون، أم إنه الزمن واختلاف مستوى تطور الإنتاج وآلياته وعلاقاته؟ الهوية الوطنية موضع اعتزاز وتكريم لدى الجماعة التي تنتمي إليها، فهي حاضن تاريخي لبنيتها وتكثيف لمفردات حياتها. إنها جزء من أنا الفرد والجماعة لدى من تعنيه. إنها كينونة هذا الشعب أو ذاك، وبناء روحه ودواخله، وهي، في الوقت نفسه، ملهمة أبنائه إبداعاً وارتقاء، وبما يخدم حياته أمناً وتوادّاً ورفاهاً. تتابين صورة الهوية خلال تكوُّنها وتطورها، فهي إما قَبَلِيًّة أو قومية أو دينية. وتدخل عادات الشعوب وتقاليدها ولغتها في تكوين الهوية التي قد تتباين مع تباين الأزمان، وتطور حياة ذوي الهوية الواحدة، وقد تدخل في تناقضٍ مع هويات أخرى بشأن مسائل حياتية، ربما قادت إلى نزاعات وحروب.
مع انتقال العالم إلى العصور الحديثة، نهضت ثورات برجوازية رافقت نمو الصناعة، فأنهت الشكل الإمبراطوري للدولة الواسعة الجامعة. وهكذا نشأت دول كثيرة على أسس هويات جديدة غلب عليها الطابع القومي، على الرغم من غياب نقاء العرق أو صفاء القومية، وبقاء تلون الأديان والمعتقدات كافة. وجرى تجاوز ذلك بالحرية المعطاة للإنسان الفرد وبالحقوق العامة، المتساوية سياسياً واجتماعياً وإنسانياً، وفق دستورٍ ينظم علاقاتها وقوانين تنفذ بنوده دونما تجاوزٍ من أية سلطة. وذلك كله بالطبع لم ينه التناقض بين بني البشر، بل لعله قد أخذ أشكالاً جديدة تمنح الغلبة للإنتاج القائم على العلم والمعرفة والعلاقات الأكثر إنسانية.
الهوية الوطنية موضع اعتزاز وتكريم لدى الجماعة التي تنتمي إليها، فهي حاضن تاريخي لبنيتها وتكثيف لمفردات حياتها
إذا ما نظرنا إلى سورية القرن العشرين، نجد أنه، على الرغم من “سايكس بيكو” (1916)، مسّها نوع من ذلك التطور، فالمجموعة السياسية التي قادت البلاد نحو الاستقلال السياسي أنشأت دولة حديثة، وفق ما توصلت إليه الدول الأوروبية، وأخذت تلك الدولة تنمو سياسياً واجتماعياً بما يتساوق مع نموِّ السياسة والاقتصاد، وقد شهد العالم بذلك لتلك الدولة الناشئة في ظلال الديمقراطية ومبادئها، إذ سمحت بقيام أحزاب سياسية على أسس إيديولوجية مستمدّة من واقع تاريخي معين، ومتطلعة نحو مستقبلٍ يتسق مع ذلك الواقع. وهكذا توزّع الواقع إلى هوياتٍ وقعت في تناقض من خلال أحزابها، فكانت في سورية أحزاب تمثل الإيديولوجيا الدينية، وأخرى تجسّد القوميتين العربية والسورية، وثالثة تمثل الإيديولوجيا الطبقية، فيما استمدت بعض الأحزاب برامجها من الروح الوطنية وقيمها، مثّلها الحزبان، الوطني 1947 والشعب 1948، وكلاهما تبنّى مصالح كبار البرجوازية الصناعية والتجارية الصاعدتين، والإقطاعية الزراعية المنقسمة على ذاتها آنذاك، ففي حزب الشعب مثلاً وجدت شرائح مثقفة، ذهبت إلى أهمية وجود حلولٍ جذريةٍ لإصلاح العلاقات الزراعية. ولكن الحزبين لم يبتعدا عن العقد الديمقراطي الذي صاغه دستور 1950 نظاماً أساسياً للدولة الحديثة (عبد الله حنا، “صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية في القرن العشرين”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018).
موجات الاحتجاجات التي بدأت في العام 2011 كانت واضحة الغاية، فلم يكن لها من هدف غير تحقق الحرية بمعناها الأشمل، واقتلاع الاستبداد من جذوره
وقد أتاح ذلك العقد الدستوري، وما سبقه من دساتير منذ العام 1920، تشكيل أحزاب سياسية (جرت الإشارة إليها)، إلا أن معظم تلك الأحزاب وضعت معتقداتها الإيديولوجية، وخصوصا القومية منها، سبيلاً لتقويض تلك الدولة النامية، متنكرة للديمقراطية التي رعتها، فقد سعت إلى الانفراد بالحكم، عبر انقلاباتٍ عسكرية، وخصوصا حزب البعث، على الرغم من وجوده اللافت في المجلس النيابي، إذ جاء بعد الحزبين المذكورين، لكن فكرة الاستئثار بالسلطة كانت طاغية لدى عسكره بعد تجربة الوحدة السورية المصرية (1958 – 1961). وهكذا، ما إن استتب الأمر لهؤلاء، حتى أخذ الحاكم البعثي في إقصاء الجميع، ما أدّى إلى تغييب الدولة الوطنية الديمقراطية، ثم تراجع النمو على غير صعيد، وصولاً إلى العام 2011، إذ تبين أن الدكتاتورية هي أم العلل ورأس شرورها! وغدا هدف الشعب استعادة دولة الديمقراطية المغيبة. ومن هنا، كانت انتفاضة الشعب السوري لدى هبوب نسائم الربيع العربي تحت عنوانين كبيرين، الحرية والكرامة. ولكن وعلى الرغم من أنَّ موجات الاحتجاجات التي بدأت في العام 2011 كانت واضحة الغاية، فلم يكن لها من هدف غير تحقق الحرية بمعناها الأشمل، واقتلاع الاستبداد من جذوره، للانتقال إلى بناء وطني واجتماعي معاصرين من خلال دولة المواطنة المسيّجة بالقوانين. واتساق ذلك مع آمال الشباب الذين تصدّروا مشاهد تلك الموجات الاحتجاجية وجوهر البناء العصري النامي، وعلى الرغم من زخم الحالة الاحتجاجية المشحونة بتراكمٍ تكثّفت نتائجه في هزائم مني بها الوطن على غير صعيد. وعلى الرغم من أنَّ الحراك الشعبي جاء بمبادرة من أجيال الشباب، رغبةً وإرادةً في محاكاة أدوات عصرها مادة وعلماً ومفاهيم تتعلق بروح العدالة والمساواة، إلا أنَّ من استلم دفة القيادة لم يكن قادراً على التقاط جوهر المبادرة ونزعتها التغييرية الارتقائية، فبقايا تلك الأحزاب التي تقطر إيديولوجيا، كانت لا تزال معشّشة في الأذهان. وهكذا كانت الانطلاقة من المكوِّنات (الهويات) التي حيِّدت عملياً الهدف الرئيس الذي هو دولة الحرية والقانون، وغاب صوت الحرية السوري الواحد في خضم صراع المكونات، وتقاسم الحصص.
ما أراده الشباب من ثورتهم ونزيف دمهم، وقد فتنوا العالم بفعلهم، هو استعادة الدولة المختطفة
لا تريد هذه المقالة أن تلقي اللوم على أخطاء ارتكبت، وبات الجميع يعرفها حتى المعني بها، وغدت في الفترة الأخيرة علنية وصبيانية ومبتذلة، ولكن الهدف تلمُّس بداية صحيحة للتجاوز، والمضي في سبيل الغاية النبيلة التي أهدر الدم لأجلها. ما أراده الشباب من ثورتهم ونزيف دمهم، وقد فتنوا العالم بفعلهم، هو استعادة الدولة المختطفة، مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات التي حدثت خلال خمسين عاماً. لقد كانت ممارسة من تسنَّم قيادة الثورة أدنى من ذلك الزخم الذي أظهره الشباب. إذ كانت تقليدية في رؤيتها وممارستها، ولم تُحسن، منذ البداية، قراءة هواجس الشباب، كما لم تتلمس حقيقة ما في عقولهم من إدراك للمرحلة التي تدقّ أبواب التغيير والبدء بكتابة مستقبل المنطقة. ولم تع حقيقة ما سوف تفعله استعادة دولة الحرية والديمقراطية من تغيرات إيجابية تثري معها الهويات الوطنية، لا انفصالاً أو تجزئة، أو ما يمكن أن يقود إلى مثل ذلك، بل بما تمنحه من حريات سياسية وإدارية تنموية وثقافية تطاول اللغة والأدب، وكل ما تتوق إليه نفس المواطن من نزع لأية مظلومية، مهما كان نوعها أو مسببها.
لننظر اليوم إلى أية دولة أوروبية، فمن يحكمها، هل هي الهويات؟ لا أبداً، بل القوانين العادلة التي تحقق المواطنة كاملة، فلا تميز بين أبيض وأسود، ولا بين رجل وامرأة. بل إثراء للهوية/ الدولة، وتنمية وازدهار. وهذا ما تطلعت إليه ثورات الربيع العربي، فلا أحد راغب في البقاء خارج التاريخ.
محمود وهب
العربي الجديد