عاد الحديث عن كيفية تفشي وباء كورونا في العالم إلى الواجهة في إطار الحرب السياسية بين الصين والولايات المتحدة، وجديده اتهام بكين واشنطن بصناعة الفيروس في مختبرٍ، علماً أن الاتهامات كانت معكوسة أيام الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي وصل إلى حد تسمية الوباء بـ”الفيروس الصيني”.
وبدا واضحاً منذ 20 يناير/ كانون الثاني الماضي، تاريخ بدء عهد خلف ترامب، جو بايدن، أن الأخير لن يهادن الصين، وهو ما كرّسه في مواقفه السياسية في الأشهر الماضية، فضلاً عن زيادة دعمه لدول جوار الصين، الحليفة للولايات المتحدة، مثل كوريا الجنوبية واليابان والفيليبين، وخصوصاً تايوان. وبدأ كل شيء في العام الماضي، حين اتهم ترامب الصين بصناعة فيروس كورونا في أحد مختبرات ووهان، حيث خرج الوباء، وعلى الرغم من أن مسؤولين صينيين ردّوا بتسرّع، في مارس/ آذار الماضي، على الرئيس السابق، وقالوا في حينه إن “الفيروس وُلد من مختبرات للجيش الأميركي”، إلا أن طبيعة هذا الاتهام تطورت. ففي الأسابيع الأخيرة، ضاعفت بكين جهودها عبر تحشيد دبلوماسييها، داعية منظمة الصحة العالمية إلى إجراء تحقيقات في معهد الأبحاث الطبية للأمراض المعدية التابعة للجيش الأميركي في فورت ديتريك في ولاية ميريلاند.
يحتاج الأميركيون إلى 90 يوماً إضافياً لبحث أصل كورونا
وجاءت الاتهامات بعد نحو شهر من رفض بكين اقتراح منظمة الصحة العالمية بإجراء تحقيق في المرحلة الثانية في أصول كورونا، تشمل عمليات تدقيق للمختبرات والأسواق في ووهان. وكال مسؤول صحي صيني كبير الاتهامات للمنظمة بـ”تجاهل الفطرة السليمة وتحدي العلم”. مع العلم أن المنظمة أصدرت تقريراً أولياً عن عملها في الصين في مارس الماضي، خلصت فيه إلى أن نظرية “تسرّب الفيروس من المختبر غير مرجحة للغاية”. لكن عدداً متزايداً من الدول الغربية والعلماء شككوا في دقة التقرير الأصلي، متهمين الصين “بمنع الوصول إلى البيانات والعينات الأصلية الكاملة”.
وفي إشارة إلى عدم الاقتناع بتقرير منظمة الصحة، أمر بايدن في مايو/ أيار الماضي وكالات الاستخبارات الأميركية بمضاعفة الجهود للنظر في كيفية نشوء فيروس كورونا، بما في ذلك احتمال حصوله بسبب “حادث مختبر”. وطُلب في حينه من الوكالات تقديم تقرير إلى بايدن في غضون 90 يوماً، أي أنه من المرجح أن يصدر في الشهر الحالي. غير أنه من اللافت أن الوكالات لم تحصل على أي دليل على نشوء الفيروس في مختبر، بل يعتقد العديد من العلماء أن كورونا انتقل بشكل طبيعي من الحيوانات إلى البشر.
مع ذلك، فإن كبار مسؤولي المخابرات يكشفون أن الوكالات منقسمة بين النظريتين. وفي ظلّ حصولها على كمّ هائل من البيانات الأولية، تعتمد الوكالات على أجهزة الكمبيوتر العملاقة في المختبرات الوطنية التابعة لوزارة الطاقة، وهي مجموعة من 17 مؤسسة بحثية حكومية. وظهرت الحاجة إلى علماء حكوميين يتمتعون بالمهارات الكافية لتفسير بيانات التسلسل الجيني المعقد، فضلاً عن ضرورة إلمامهم باللغة الصينية. ومع حصولهم على بيانات وراثية من 22 ألف عيّنة من فيروس كورونا، كانت قيد الدراسة في معهد ووهان لعلم الفيروسات، تكون وكالات المخابرات قد خطت خطوة جديدة، خصوصاً أن الصين أزالت البيانات في سبتمبر/ أيلول 2019. وترفض بكين منذ ذلك الحين تسليم هذه البيانات وغيرها من البيانات الأولية حول حالات الإصابة المبكرة بفيروس كورونا إلى منظمة الصحة العالمية والولايات المتحدة.
ويحاول المحققون الإجابة عن سؤال أساسي يتمحور حول ما إذا كان مختبر ووهان ومختبرات صينية أخرى تمتلك عيّنات من الفيروسات أو غيرها من المعلومات التي يمكن أن تساعدهم على تتبع التاريخ التطوري لفيروس كورونا أم لا. لكن من المحتمل ألا تكفي مهلة الـ90 يوماً، وقد يتقدم مسؤولو وكالات المخابرات بطلب تقديم مراجعة ثانية تمتد لـ90 يوماً إضافياً. وتمّ التمهيد لهذه الخطوة عبر توجيه أعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في لجنتي المخابرات والعلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ رسالة يحثون فيها الإدارة الأميركية على الاستمرار في متابعة الملف. وعلّلوا ذلك بـ”منع تفشي الأوبئة في المستقبل”.
اتهمت الصين الجيش الأميركي بصناعة الفيروس في مختبر
وإزاء هذه التطورات، رفضت بكين بشكل قاطع فكرة احتمال تسرب الفيروس من مختبر في ووهان، معتبرة أن واشنطن تحاول تسييس أصوله. لكن الصينيين يلعبون اللعبة ذاتها، مع دعم نظرية نشوء الفيروس في مختبر عسكري أميركي. بل ذهبوا أبعد من ذلك، عبر تنظيم حملة إعلامية، بقيادة صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية الناطقة باللغة الإنكليزية، التي دشنت حملة تدعو فيها الناس إلى التوقيع على رسالة مفتوحة إلى منظمة الصحة العالمية تطالب بإجراء تحقيق في مختبر فورت ديتريك. وجمعت الرسالة 25 مليون توقيع حتى الآن.
وفي مؤتمر صحافي الأسبوع الماضي، دعا المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو ليجيان منظمة الصحة العالمية إلى التحقيق في فورت ديتريك ومختبر في جامعة كارولاينا الشمالية، الذي يرأسه الخبير الأميركي البارز في فيروس كورونا رالف باريك، حتى إن تشاو اعتبر أن الرياضيين العسكريين الأميركيين، الذين حضروا الألعاب العسكرية العالمية في ووهان، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، كان بإمكانهم جلب فيروس كورونا إلى الصين. وروّجت وسائل إعلام صينية لنظرية لا أساس لها من صحيفة شعبية إيطالية غامضة، ادّعت فيها أن الجيش الأميركي نشر فيروس كورونا في إيطاليا من خلال برنامج للتبرع بالدم.
وجاء في العنوان الرئيسي في نشرة لرابطة الشباب الشيوعي في الصين: “دليل دامغ! دخل فيروس كورونا إلى أوروبا من فورت ديتريك عن طريق برنامج التبرع بالدم للجيش الأميركي”. في الواقع يأتي تركيز بكين على فورت ديتريك، في ظلّ الانتشار السريع لمحور دلتا شديد العدوى في الصين. فمنذ 20 يوليو/ تموز الماضي، أصاب التفشي المتصاعد، وهو الأسوأ منذ أكثر من عام، أكثر من 500 شخص في عشرات المدن، واضعاً ملايين السكان تحت الإغلاق وفارضاً القيود على السفر الجماعي. ويشكل تفشي دلتا تحدياً كبيراً للصين، ما دفع بعض خبراء الصحة العامة فيها إلى القول إن البلاد ستحتاج في النهاية إلى التحول إلى استراتيجية جديدة، وتعلم التعايش مع فيروس كورونا.
(العربي الجديد)