خلال ساعات صباح أول من أمس الجمعة، اشتعلت الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، بعد إطلاق صواريخ من حزب الله اللبناني على منطقة مزارع شبعا التي تحتلها إسرائيل. للوهلة الأولى، ترقّب الجميع تدحرج هذا الاشتباك إلى حربٍ أوسع بين الحزب وقوات الاحتلال، وبدأت فعلياً عمليات نزوحٍ محدودة من بعض القرى الحدودية إلى الداخل اللبناني، غير أن الأمور ما لبثت أن هدأت، بعد إصدار إشاراتٍ من حزب الله أولاً، وإسرائيل تالياً، بعدم الرغبة في التصعيد.
حمل هذا التصعيد الذي لم يدم أكثر من ساعات قليلة، مؤشراتٍ عديدة، خصوصاً مع ما رافقه من أحداث في الداخل اللبناني، مرتبطة بشكل وثيق بحزب الله، وما كان يسمّى البيئة الحاضنة للمقاومة، وما سبق ذلك من أحداثٍ مرتبطة أيضاً بالحزب ودخوله على خط كل الملفات الداخلية اللبنانية، بل وتحكّمه فيها.
بداية، لا بد من الإشارة إلى الشرارة الأولى للاشتباك الحدودي، والذي بدأ مع إطلاق صواريخ مجهولة المصدر، في الرابع من أغسطس/ آب الحالي، إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو توقيتٌ مشبوه، لتزامنه مع إحياء الذكرى الأولى لانفجار مرفأ بيروت، فقد كان من الواضح أن هناك من يريد حرف الأنظار عن الذكرى وتداعياتها التي تطاول عددا كبيرا من السياسيين اللبنانيين، لمصلحة إحياء جبهة المواجهة مع إسرائيل. وعلى الرغم من أن حزب الله لم يتبنّ هذه الصواريخ، غير أنه لم ينفِ ارتباطه بها. وما حدث لاحقا في اليوم التالي يؤكد أن للحزب يداً في تحريك هذه الجبهة في هذا التوقيت.
أراد حزب الله المضي في المواجهة، وفق حساباتٍ مضبوطة، وفي إطار ما يسمّيها “قواعد الاشتباك”، خصوصاً أن الرد الإسرائيلي على الصواريخ الأولى تضمّن غارات لطائرات على مناطق في الجنوب اللبناني، وهو أمر لم يحدث منذ حرب تموز 2006. أراد حزب الله تثبيت قواعد الاشتباك هذه من دون الانزلاق إلى حربٍ واسعة، وفي الوقت نفسه، إعادة إحياء شكله حزبا “مقاوما” في مواجهة إسرائيل، ولا سيما أنه خسر هذه الصورة مع تورّطه في الحربين، السورية واليمنية، وسيطرته السياسية والعسكرية على الداخل اللبناني. غير أن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر بالنسبة للحزب، بل كشفت عن واقع يحاول حزب الله التعامي عنه منذ 2008، أي تاريخ اجتياحه بيروت ومناطق في جبل لبنان، بعد أزمةٍ سياسيةٍ داخليةٍ حسمها عسكرياً.
نجح حزب الله في ضبط التصعيد مع إسرائيل، خصوصاً أنه، في ردّه على “الغارات الجوية”، تقصّد عدم استهداف الداخل الإسرائيلي، واقتصر قصفه على منطقة مزارع شبعا المحتلة، وهو ما فهمه الإسرائيليون محاولة من الحزب لحفظ ماء الوجه، وتعاملوا معه باعتباره رسالة عدم الرغبة في التصعيد، وتعاملوا معه بالطريقة نفسها، الأمر الذي أنهى هذا الاشتباك في غضون ساعات قليلة، غير أن ما ترافق مع ذلك هو ما لم يحسب له الحزب حساباً. فتوقيف مواطنين لبنانيين راجمة صواريخ تابعة للحزب في بلدة شويا في قضاء حاصبيا، والاعتداء على أحد أفراد الحزب الذي كان يقودها، أمر غير مسبوق في تاريخ مواجهات حزب الله مع إسرائيل، ما قبل عام 2006. إذ لم يحصل سابقاً أن اعتُرضت أي آليةٍ للحزب في طريقها لتنفيذ “عمل مقاوم”، بل على العكس، كان الأهالي في الجنوب يسهّلون عمل المجموعات التابعة للحزب أثناء المواجهات. وعلى الرغم من الاستنكار والعراضات الفلكلورية والمصالحة الصورية التي حصلت بعد ذلك بين أهالي حاصبيا، والذين صادف أنهم من الطائفة الدرزية، وأفراد من حزب الله، إلا أن الحادثة كشفت خسارة الحزب ما كان يسميها “البيئة الحاضنة للمقاومة”. بيئة لم تكن مقتصرة قبل 2006، وحتى بعدها بقليل، على المنبت المذهبي للحزب، بل تعدّته إلى كل الأطياف اللبنانية، وهو ما اتضح في احتضان النازحين من الجنوب في عام 2006 في كل المناطق اللبنانية.
ولكن بات واضحاً اليوم أن الوضع مختلف، فالنقمة على الحزب من خارج بيئته، وحتى بعض داخلها، باتت كبيرة، بعد تورّطه في سورية وتغطيته على ملفات فساد داخلية، وربما ضلوعه فيها. وأي حربٍ مماثلةٍ لما حصل في 2006 لن يكون التفاعل معها مماثلاً لما كان في ذلك الحين، فهناك “قواعد اشتباك” جديدة داخلياً لم تكن سابقا في حسابات حزب الله، غير أنها ستكون أولوية اليوم.
حسام كنفاني
العربي الجديد