في اليوم التالي لما اعتُبر نجاحا للثورة السودانية (هل هو كذلك حقا؟)، أي في 12 إبريل/ نيسان 2019، سئل رئيس اللجنة العسكرية السياسية في المجلس العسكري الانتقالي، الفريق أول عمر زين العابدين، ما إذا كانت السلطة العسكرية التي تولّت الحكم ستسلم الرئيس المخلوع عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وهي التي تطالب به منذ العام 2008. أجاب الرجل إن هذا لن يحدُث في فترة المجلس العسكري، وقال “نحن عساكر، نحاكمه بحسب قيمنا.. نحاكمه، ولكن لا نسلمه”. وظل سؤالٌ كهذا ينطرح تاليا على عساكر مجلس السيادة وعلى وزراء في الحكومة، ومما قاله، مثلا، وزير الإعلام والثقافة السابق، فيصل محمد صالح، إن من السيناريوهات المطروحة مثول البشير (وآخرين) أمام قضاة “الجنائية الدولية” في الخرطوم، أو أن تكون المحاكمة مختلطة دولية سودانية. ولكن الأبرز مما تبعثر من تصريحات، مرتجلة غالبا، تدحرجت في هذا الخصوص، قول رئيس المجلس السيادي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إن تسليم البشير من صلاحيات مجلس الوزراء وليس القوات المسلحة. ولمّا أعلنت وزيرة الخارجية، مريم الصادق المهدي، الأسبوع الماضي، بعد اجتماعها في الخرطوم مع المدّعي العام للمحكمة العتيدة، كريم أسد خان، إن مجلس الوزراء قرّر تسليم المطلوبين إلى “الجنائية الدولية”، فإن الأبله وحده سيصدّق أن مجلس الوزراء هو من قرّر هذا، تماما كما أن الساذج وحدَه صدّق قول البرهان ذاك.
تجتمع السذاجة والبلاهة معا في من يحسِب قرار الحكومة في الخرطوم استجابةً لاستحقاقات إنجاز العدالة والمحاسبة في السودان في ملف دارفور الدامي، فالبديهيّ أن إنجازهما يتطلّب عدالةً قصوى في النظر في ملف دارفور كله، فأن يكون البشير ونظامه وقطاعاتٌ من الجيش السوداني وقيادييه مسؤولين عن فظاعاتٍ موصوفة في الإقليم لا ينفي أن مسؤولين في تشكيلات مليشياوية في حركات متمرّدة في دارفور مسؤولة أيضا عن فظاعاتٍ ليست أقلّ هولا، و”الجنائية الدولية” نفسها شملت في اتهاماتها أشخاصا من هؤلاء. والظاهر أن الجنرالات الحاكمين في السودان أرادوا أن تتعفّف أيديهم من “بيع” رئيسهم السابق، وبعضهم كانوا، بأوامر منه، ينفذون هجماتٍ مسلّحة في دارفور (ليس وحده نائب رئيس المجلس السيادي محمد حمدان دقلو “حميدتي”)، فكان القرار أن يصدر عن الحكومة تسليم عمر البشير وأربعةٍ آخرين معه (بينهم وزير الدفاع الأسبق، عبد الرحيم محمد حسين)، ربما دفعا لحرجٍ ثقيلٍ كان سيصير لو تولّى العساكر الحاكمون هذا الأمر. ويبعث على الغبطة أن يحوز آلاف الضحايا من القتلى والمعوّقين والمشرّدين في الإقليم الملتهب شيئا من القصاص ممن أعمل فيهم التنكيل والفتك (والحرق) والاغتصاب وصنوفا من العذاب في بطاح شاسعةٍ في ولايات دارفور الثلاث. ولكن من بالغ الأهمية عدم الاستسلام، كيفما اتفق، لسردياتٍ مستهلكةٍ سيقت في منابر ووكالات أنباء ومنظمات متعدّدة بخفّة، وبقليلٍ من التحقق من المعلومات، فحقيقيٌّ أن ناس دارفور من الأفارقة والعرب تعرّضوا لأهوال، وأن جرائم كبرى عرفتها الحرب الأهلية الدامية بين ظهرانيهم، وقد شاهد كاتب هذه الكلمات بعض آثارها في إحدى مناطق جنوب الإقليم، غير أن استئثار مصادر محدّدة، غربيةٍ وأميركيةٍ متحمّسةٍ ومسكونةٍ بالمبالغات غير المدققة، برواية ما جرى يفرض على من يفحص قضية دارفور بذل جهدٍ مضنٍ للوقوع على الحقيقة، أو مقادير مقنعة فيها، ومن ذلك أن ترديد وكالات الأنباء عدد 300 ألف قتيل غير حقيقي، كما كذب أزعومة البشير وأجهزته عن عشرة آلاف.
إن كانت هذه واحدةً من التباساتٍ كبرى في ملف دارفور، فإن التباسا أصعب لا يجوز إغماض العيون عنه، بشأن المعايير التي تحتكم إليها المحكمة الجنائية الدولية في مقاضاة عمر البشير وصحبه، فيما ينجو مجرمو حربٍ عتيدون، ترأسّوا بلادا، ويعدّون مسؤولين مؤكّدين عن فظاعاتٍ معلومةٍ في فلسطين والعراق والجزائر وسورية، من المثول في أقفاص المحكمة التي لم يغال الاتحاد الأفريقي مرّة لمّا كاد يتهمها بالعنصرية، عندما تركّز على الأفارقة المتهمين بالذنوب. أما عدم مصادقة الولايات المتحدة على قانون الانضمام إلى المحكمة، مع ترحيبها أخيرا بقرار تسليم عمر البشير، فإنه يُحدِث زوبعة من كلامٍ مسترسلٍ، كما كلامٌ آخر كثيرٌ في الوسع أن يُقال بشأن أثمانٍ يراهن حكّام السودان، العساكر ومعهم رئيس الحكومة عبدالله حمدوك، على أن يتسلّموها، وقد قرّروا بيع عمر البشير في فاتورةٍ قيد السداد.
معن البياري
العربي الجديد