مع إسدال الستار على دورة الألعاب الأولمبية “طوكيو 2020”- المؤجلة عاماً عن موعدها الأصلي بسبب جائحة كورونا – في 8 أغسطس 2021، حققت الصين إنجازاً باحتلالها المرتبة الثانية بين الدول المشاركة في الدورة، بفارق ميدالية ذهبية واحدة فقط عن الولايات المتحدة، التي جاءت في المركز الأول، الأمر الذي يمهد الساحة الرياضية العالمية لمنافسة شرسة للغاية بين القوتين الدوليتين في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية المقرر عقدها في فبراير 2022 في بكين، وبما يعكس أيضاً امتداد التنافس السياسي والعسكري والاقتصادي بين واشنطن وبكين إلى مجالات أخرى.
صعود الصين:
حصلت الصين في أولمبياد “طوكيو 2020″، التي سيتذكرها العالم باعتبارها واحدة من أكثر الأولمبياد غرابة في التاريخ لإقامتها من دون جمهور ووسط جائحة عالمية غير مسبوقة، على 38 ميدالية ذهبية، و32 ميدالية فضية، و18 ميدالية برونزية، بإجمالي 88 ميدالية. بينما تصدرت الولايات المتحدة ترتيب الأولمبياد بحصولها على 39 ميدالية ذهبية، و41 ميدالية فضية، و33 ميدالية برونزية، بإجمالي 113 ميدالية. وكان الوفد الصيني من أكبر الوفود المشاركة في هذه الدورة، وتكون من 431 رياضياً، بينما استضافت الدورة حوالي 11 ألف رياضي من 205 دول ومنطقة في 339 مسابقة عبر 33 رياضة.
ويعد احتلال الصين المركز الثاني في أولمبياد طوكيو مؤشراً جديداً على صعود القوة الصينية العالمية وتنامي التنافس بين بكين وواشنطن، وامتداده من المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية إلى الرياضة العالمية. فمنذ أول دورة ألعاب أولمبية في عام 1896، فازت الولايات المتحدة بجميع دورات الألعاب الأولمبية باستثناء 11 دورة، انتزعها منها الاتحاد السوفييتي السابق في ذروة الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو. أما الصين والتي لم تكن قد فازت في تاريخ الألعاب الأولمبية بأي ميدالية حتى نالت أول ميدالية لها في دورة لوس أنجلوس عام 1984، فقد تمكنت بعد 37 سنة من الاقتراب كثيراً من إزاحة الولايات المتحدة من مكانتها المعتادة كرقم 1 في دورات الألعاب الأولمبية، وهو الأمر الذي كان قد تحقق مرة واحدة فقط من قبل، خلال استضافة بكين أولمبياد 2008، وحصلت الصين فيها على 48 ميدالية ذهبية مقابل 36 فقط للولايات المتحدة.
وتجدر الإشارة إلى أن نتائج “أولمبياد ريو 2016” قد أسفرت عن احتلال الصين المركز الثالث بإجمالي 70 ميدالية، توزعت بين 26 ذهبية و18 فضية و26 برونزية. فيما تصدرت الولايات المتحدة ترتيب هذه الدورة بإجمالي 121 ميدالية (46 ذهبية و37 فضية و38 برونزية)، وحلت بعدها بريطانيا في المركز الثاني برصيد 67 ميدالية (27 ميدالية ذهبية و23 فضية و17 برونزية).
عوامل مُفسرة:
ثمة العديد من العوامل التي تفسر الصعود الصيني في الدورات الأولمبية، وآخرها أولمبياد “طوكيو 2020″، وأبرزها الآتي:
1- الاهتمام بالرياضة لتعزيز المكانة الدولية: أدرك صانعو القرار في بكين أن التفوق الرياضي في دورات الألعاب الأولمبية هو أحد الجوانب الرئيسة لبلوغ مكانة القوة العظمى في العالم، مثله مثل جوانب أخرى كتصنيع حاملات الطائرات وتطوير الأسلحة النووية وإرسال البعثات الفضائية.. إلخ. وفي هذا السياق، وضع صانعو القرار في الصين هدفاً استراتيجياً بأن تصبح دولتهم “قوة رياضية عالمية بحلول عام 2035″، وتم رصد ميزانية ضخمة لتمويل برامج رياضية كبيرة على مستوى البلاد.
2- التركيز على الألعاب الفردية: في إطار الاهتمام بالألعاب الأولمبية، أعطت الصين الأولوية لما يُعرف بـ “رياضات النخبة”، والتي تتزايد فيها فرص الحصول على الميداليات الذهبية في الدورات الأولمبية، مثل رفع الأثقال وركوب الدراجات والسباحة والتجديف والرماية والجمباز وغيرها من المنافسات التي يغلب عليها الطابع الفردي، مع الاهتمام بشكل خاص بالعنصر النسائي في هذه الألعاب. ومن خلال استهداف هذه الرياضات، تمكنت الصين من الحصول على أقصى عائد من الاستثمارات التي تم ضخها في المجال الرياضي، وهو ما انعكس في حصولها على المركز الثاني في أولمبياد طوكيو.
3- توظيف المشاعر القومية: يمكن أيضاً تفسير الإنجاز الصيني في أولمبياد “طوكيو 2020” بنمو المشاعر القومية، وهو ما يبدو أنه لم يفارق أذهان الرياضيين الصينيين الذين شاركوا في هذا الأولمبياد، الأمر الذي حفزهم على حصد الميداليات. ففي اليوم نفسه الذي فازت فيه بكين بأول ميدالية ذهبية لها في دورة طوكيو، كان الرئيس الصيني “شي جين بينج” يلقي كلمة أمام اجتماع المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم في بكين يؤكد فيها، بحماس شديد، ضرورة تحديث الجيش الصيني، وأن يكون للدولة القوية “جيش قوي وقادر على ضمان الأمن القومي” في مواجهة التهديدات والتحديات المتعددة التي تواجهها الدولة الصينية.
ولم يكن الخطاب القومي الصيني المتنامي في “مواجهة الأعداء الخارجيين”، يبعد كثيراً عما كان يدور في أذهان الرياضيين الصينيين الذين شاركوا في أولمبياد طوكيو، خاصة بعد أن طالبهم المسؤول الأول عن الرياضة في الصين “قو زونج ون”، قبل أسبوع من مغادرتهم للمشاركة في دورة طوكيو، بضرورة “القتال من أجل مجد بلادهم بكل فخر وشرف ومسؤولية” في ضوء أن الرياضة هي “مثال على قوة الدولة وحضارتها”، حسبما نقلت “وكالة شينخوا للأنباء”.
وقد برز ذلك بوضوح في أفعال كثير من الرياضيين الصينيين المشاركين في منافسات طوكيو. فعلى سبيل المثال، قالت السباحة الصينية “تشانج يوفي”، بعد حصولها على الميدالية الذهبية، “إنها شعرت أن قوة الصين تدفعها للفوز بسباق السباحة لمسافة 200 متر فراشة”. وفي الاتجاه نفسه، قال رافع الأثقال الصيني “شي تشي يونج” إنه “فاز لأنه تنافس في الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني”. كما ارتدى اثنان من راكبي الدراجات الصينيين قلادات للزعيم الشيوعي السابق “ماو تسي تونج”، خلال حفل توزيع الميداليات، وهي لفتة أشادت بها فروع الحزب الشيوعي الصيني، لكن المسؤولين الأولمبيين وصفوها بأنها “انتهاك للقواعد الأولمبية التي تحظر الدعاية السياسية”.
أولمبياد جيوسياسي:
إن ملاحقة الصين للولايات المتحدة على قمة الرياضة العالمية، والإنجاز الجديد لبكين في أولمبياد “طوكيو 2020″، يعتبر مشابهاً إلى حد كبير لما يجري على الساحة العالمية من تنافس شديد بين القوتين الدوليتين، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه “الألعاب الأولمبية الجيوسياسية”. فقد كان الصعود الصيني على الساحة العالمية أكثر دراماتيكية، فقبل عقدين فقط وفي مطلع القرن الـ 21، نظرت معظم دوائر صُنع القرار الأمريكي إلى بكين باعتبارها بعيدة تماماً عن أي منافسة جيوسياسية مع الولايات المتحدة.
ومن الناحية الاقتصادية، صنّف الأمريكيون الصين على أنها “دولة فقيرة ونامية”، وبالتالي سُمح لها بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية بشروط مخصصة للاقتصادات النامية. ومن الناحية التكنولوجية، لم يكن لدى المواطن الصيني، من وجهة نظر الأمريكيين، ما يكفي من المال لشراء أجهزة كمبيوتر أو هواتف خلوية متطورة.
وعلى المستوى العسكري، كان الاهتمام الأمريكي محدوداً تجاه التحركات العسكرية الصينية، والتي عادة ما كانت تُوصف بأنها “تهديدات أقل شمولاً”. ودبلوماسياً، لم يلتفت كثير من الدول إلى بكين، خاصة أنها كانت تتابع بهدوء ما كان يجري في العالم، التزاماً بتوجيهات الزعيم الصيني الأسبق “دنج شياو بينج” الذي أكد مراراً ضرورة “الاختفاء والاختباء” من أجل تحقيق التنمية.
وكما حدث على الصعيد الرياضي في الأولمبياد، تغير كل ذلك خلال العقدين الماضيين، حيث نهضت الصين اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً بشكل أكبر وأسرع من أي دولة أخرى، ما جعلها منافساً قوياً للقوة العظمى الوحيدة في العالم، وهي الولايات المتحدة. وقد حدث ذلك، على حد وصف الرئيس التشيكي السابق “فاتسلاف هافيل”، بسرعة كبيرة، حيث “لم يكن لدى العالم الوقت ليندهش”. فالصين اليوم هي “ورشة التصنيع الأكبر والأهم في العالم”، كما أنها أصبحت الشريك التجاري الأول لمعظم دول العالم، وهي أيضاً المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وأصبحت الصين أكبر اقتصاد في العالم، بالمقياس الذي خلص إليه كل من صندوق النقد الدولي ووكالة الاستخبارات المركزية الامريكية.
وفي الساحة العسكرية، تحولت بكين لتصبح منافساً استراتيجياً للولايات المتحدة في كل مجالات الحرب المحتملة في الجو والأرض والبحر والفضاء الإلكتروني، على حد تعبير وزير الدفاع الأمريكي السابق “جيم ماتيس”. ومن جهة أخرى، يرى “إيلون ماسك”، رجل الأعمال الشهير ومؤسس شركة “تيسلا موتورز لصناعة المركبات الكهربائية والأنظمة الشمسية”، أن الصين هي أكبر منتج ومستهلك للسيارات، كما أنها سوف تصبح أكبر سوق للمركبات الكهربائية في العالم. كما يؤكد “إريك شميدت”، الرئيس التنفيذي السابق لشركة جوجل العالمية، أن الصين هي الرائدة حالياً في العالم من حيث تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي (AI)، خاصة في مجالات التعرف على الوجه والصوت، وأجهزة الكمبيوتر العملاقة والتكنولوجيا المالية.
عالم جديد:
في ضوء ذلك، يمكن اعتبار تحقيق الصين للمركز الثاني في أولمبياد طوكيو إنجازاً رياضياً يعكس حقيقة أن بكين في طريقها إلى قلب نظام ما بعد الحرب الباردة؛ اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً وسياسياً. وفي هذا الإطار، يتعين على دول كثيرة، بما فيها الولايات المتحدة، إيجاد طريقة ما للتعامل مع عالم جديد تكون فيه الصين على الأقل في بعض المجالات رقم 1.
ولا يعني ذلك بالضرورة “انتهاء اللعبة” بالنسبة للولايات المتحدة، حيث إنه من المرجح أن تعمل واشنطن خلال الفترة المقبلة بنشاط على مواجهة التحدي الصيني. فمن الناحية التاريخية، كان الأمريكيون أحياناً يتسمون بالبطء في مواجهة التحديات الكبرى، ولكنهم لم يتراجعوا، في كثير من الأحيان، عن المنافسة والاستمرار في مواجهة الخصوم. ويشهد على ذلك أن أعظم حروب الأمريكيين لو كانت قد انتهت بعد الجولات الأولى، لكانت ألمانيا انتصرت في الحرب العالمية الأولى، وكانت آسيا الآن منطقة ازدهار ياباني كبير، وكان الأوروبيون يتحدثون الآن اللغة الألمانية.
ختاماً، يمكن القول إن نتيجة “الألعاب الأولمبية الجيوسياسية” بين بكين وواشنطن قد تظهر مع تنظيم الصين دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في فبراير 2022. فرياح التنافس مع الولايات المتحدة لن تجري، على الأرجح، كما تشتهي الصين، التي تخشى أن يتحول هذا الحدث الرياضي المقبل، الذي تستضيفه بكين للمرة الثانية، إلى بؤرة للصدام مع الولايات المتحدة في قضايا تتعلق بحقوق الانسان في تايوان وهونج كونج وإقليم شينجيانغ ذي الأغلبية المسلمة، فضلاً عن اتهام الصين بالمسؤولية عن تفشي وباء كوفيد -19. وسيتابع العالم هذا الموعد الرياضي الكبير، لمعرفة مَن سيحطم الأرقام القياسية هذه المرة، واشنطن أم بكين؟
د.أحمد قنديل
المستقبل للدراسات