العلاقات العربية الروسية: حاضر الماضي ومستقبل الحاضر

العلاقات العربية الروسية: حاضر الماضي ومستقبل الحاضر

_49523_pouting

بعد تفكك دولة الاتحاد السوفييتي في أواخر عام 1990 ووراثتها من قبل روسيا الاتحادية، انتقلت السياسة الخارجية لهذه الدولة من التوجه نحو الانسياق وراء السياسة الخارجية الأميركية، خلال عهد يلتسن إلى التوجه نحو بناء الفاعلية الداخلية للدولة الروسية الاتحادية بعد الانهيار الاقتصادي والتفكّك الاجتماعي الذي عرفته خلال التسعينات، من أجل دعم فاعليتها الخارجية وتوظيفها لبناء دولة ومؤثرة.

ويعد فلاديمير بوتين، القومي والبرغماتي، صانع هذا التوجه، منذ ولايته الأولى في عام 2000. وتعبر استراتيجية الأمن القومي الروسي الممتدة لسنة 2020، والتي تم تبنيها رسميا في عام 2009. فبموجبها يراد تأمين النمو الاقتصادي المتسارع وتحويل روسيا الاتحادية اقتصاديا إلى قوة دولية كبرى وتوظيف مخرجات هذا التحول لتأمين مصالح الأمن القومي الروسي ولتوسيع دائرة هذه الاستراتيجية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

والوطن العربي من بين تلك الدوائر الإقليمية التي حظيت باهتمام خاص من قبل الرئيس الروسي أسفر عن عقد اتفاقات اقتصادية وعسكرية وتقنية مهمة. ويمكن القول إن العلاقات العربية الروسية تتجه تدريجيا نحو تأسيس علاقات تعاون بين الجانبين. وقد ساهم هذا التطور في إدراك موسكو لفوائد إعادة تفعيل العلاقات التاريخية مع بعض العرب وتطويرها مع البعض الآخر، كما انتبهت لذلك بعض الدول العربية.

يعود تاريخ هذه العلاقات إلى مرحلة الحرب الباردة التي كانت المحطة التي أدرك فيها العرب والسوفييت طبيعة التأثير السلبي للمتغير الأميركي على مشاريعهما وهو ما أفرز حاجة متبادلة لعلاقة وطيدة لم يحل التباين الأيديولوجي بينهما دونها.

عربيا، أدركت بعض الدول آنذاك أن السياسة الخارجية الأميركية حيالها تشكل التحدى الأخطر، لذلك لم تجد مفرا من الاستعانة بالاتحاد السوفييتي، الذي كان في تلك الفترة يقود سياسة الممانعة للإستراتيجية الأميركية في العالم. بالمقابل وجد صناع القرار السوفييتي في مثل هذه الحاجة العربية فرصة لاختراق سياسة الاحتواء الأميركية حيال دولتهم من ناحية، ولدعم أهداف الإستراتيجية الكونية السوفييتية من ناحية أخرى.

لكن هذه العلاقات لم تكن ثابتة عند مستوى معين وتراوحت بين التميز حينا والتضارب والتراجع أحيانا. ومرد هذا الوضع عدم وعي السوفييت بأن دعمهم للعرب لا يعني انحيازهم إلى سياساتهم. وفي المقابل لم يدرك العرب أن الاتحاد السوفييتي كدولة عظمى تعمد إلى إيلاء مصالحها القومية العليا أولوية خاصة، وأهمها تعزيز العلاقة الإيجابية مع واشنطن.

عدم إدراك العرب والسوفييت لمحددات هذه العلاقات أدى، كما قال محمد حسنين هيكل، إلى أن يكون للاتحاد السوفييتي أخطاؤه في تعامله مع العرب، مثلما كان للعرب أخطاؤهم في تعاملهم مع السوفييت. لذا وجراء سوء الإدراك المشترك لهذه المحددات، تراجعت تدريجيا العلاقات العربية السوفييتية التي كانت واعدة لعقود.

والمتابع لواقع هذه العلاقات اليوم يدرك جيدا أنها مفتوحة، بالنظر إلى المستجدات الإقليمية، على عدة سيناريوهات في المستقبل. أولها أنها قد ترتقي تدريجيا إلى مصاف العلاقات الخاصة أو الاستراتيجية ولكن في حال توفر الشروط التي تدفع عادة إلى مثل هذه العلاقات، وأبرزها التحدى الخارجي المشترك وما يتبعه من تبنٍّ لسياسات موحدة حياله، وحيال قضايا أساسية بالنسبة للطرفين. ولا نرى في حاضر العلاقات العربية الروسية ما يدعم مثل هذا التصور، ومن السذاجة الاعتقاد أن الولايات المتحدة الأميركية تشكل العائق أمام هذا التحدي.

وكما كانت البوصلة السوفييتية سابقا، تستمر البوصلة الروسية اليوم في اتجاه الدولة الأميركية، مما يؤكد أن إستراتيجية الأمن القومي الروسي قد جعلت من مثلث العلاقة مع الولايات المتحدة ركيزتها الأساسية.

وينسحب الأمر ذاته على جل السياسات الخارجية العربية، التي عرفت بحرصها الدائم على بناء علاقة وطيدة مع الولايات المتحدة الأميركية. لذلك فإن القائل إن روسيا ستكون البديل لعلاقات العرب مع الولايات المتحدة لا يدرك عمق هذه العلاقات، التي لن يلغيها احتمال انتقال مركز العالم إلى منطقة آسيا.

كذلك لا يمكن اعتبار أن إيران تشكل هذا التحدي الخارجي المشترك، ففي الوقت الذي ترى فيه جل دول الخليج العربي أن إيران تشكل تهديدا لأمنها القومي، تحرص موسكو على تطوير علاقتها مع إيران جراء مدخلات جيوإستراتيجية واقتصادية وأمنية مهمة.

على مستوى السيناريو الثاني، تفتقر العلاقات العربية الروسية إلى دعم جماهيري واسع بسبب محدودية الانفتاح العربي على مكونات الرأي العام الروسي. والعكس صحيح. ولنتذكر أن الفاعلية الخارجية للدولة لا تتجسد في كفاءة دبلوماسيتها فحسب، وإنما في توظيفها الفاعل لدبلوماسيتها الشعبية أيضا. لذا قد تحمل محدودية دعم ومساندة الرأي العام العربي والروسي للعلاقات المتبادلة إلى دفعها إلى أن تبقى عادية على الأقل.

كذلك لا تستطيع العلاقات العربية الروسية أن تكون بمعزل عن تأثير تلك المتغيرات السياسية والأمنية والاقتصادية الإقليمية والدولية المستمرة. ومرد ذلك أن العلاقات بين الدول تتحرك ضمن بيئة عالمية وإقليمية متغيره ومعقدة تتيح مجموعة من الفرص الداعمة للحركة الفاعلة، ومجموعة أخرى من الكوابح التي تحد من هذه الفاعلية.

وعلى خلاف تلك الآراء العربية التي تتباين في رؤيتها لمستقبل العلاقات العربية الروسية بين التشاؤم والتفاؤل، نرى أن مستقبل هذه العلاقات قد يقترن بمشهد مركب يجعل من التكيف المتوازن الذي يجمع بين خصائص الارتقاء والتراجع ركيزته الأساس. هذا فضلا عن استمرارها على هذا النحو ولزمان قادم حتى تستقر وبالنظر إلى المتغيرات القائمة إما ازدهارا أو تراجعا.

  د.مازن الرمضاني

صحيفة العرب اللندنية