اكتست الحرب الباردة الثانية في الأشهر الأخيرة عددا من الملامح الأكثر تحديدا وعمقا والأوسع مجالا، ولكنها انتقلت في الأسابيع الأخيرة من مجرد مجابهة ثنائية بين الولايات المتحدة والصين، إلى مواجهة أوسع نطاقا، بعد أن انطلقت الدبلوماسية الأمريكية في حملة تعبئة شرسة ضد الصين في العالم، وهددت بفرض عقوبات على الدول التي لا تمتثل لرغبتها، والتي تواصل العلاقات مع الصين بشكل طبيعي.
ومع هذا الانتقال في نطاق المجابهة من المستوى الثنائي إلى التكتل الدولي، انتقل الخطاب السياسي للحرب الباردة من الصياغات الغامضة والجزئية، ليتبنى أيديولوجية واضحة تضرب في صميم النظام السياسي الصيني، وتطعن في شرعية وأهلية الحزب الشيوعي الصيني، وتحذر من سيطرته على العالم. الاستنتاج الكبير الذي نستطيع التصريح به هنا هو أن الهدف الرئيسي للحرب الباردة الثانية هو «تغيير النظام» في الصين/ وليس الاحتواء، كما كان في الحرب الباردة الأولى ضد الاتحاد السوفييتي.
سياسة الاحتواء التي كانت عنوان الحرب الباردة الأولى، استغرقت حوالي خمس وأربعين عاما، حيث امتدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي. وخلال هذه الفترة استخدمت الولايات المتحدة توليفة من سياسات «التعايش السلمي» بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، تهدف إلى تطبيع العلاقات، وتقليل مستوى التهديد النووي، وضبط سباق التسلح، والتخلص تدريجيا من أسلحة الدمار الشامل، وفتح مجالات للتعاون المشترك، خصوصا في ميادين استكشاف الفضاء، مع العمل في الوقت نفسه على استنزاف الاتحاد السوفييتي وإضعاف قوته. وقد لعبت موسكو بقواعد اللعبة ذاتها تقريبا، بصرف النظر عن نتائج المباراة التي اعتبرها نيكيتا خروتشوف «مباراة سلمية» بين نظامين، ستنتهي بانتصار النظام الاشتراكي. إن جوهر العلاقات بين الطرفين المتصارعين في الحرب الباردة الأولى كان ينطوي على «القبول بالتعددية» على مستوى النظام الدولي، على الرغم من جنوح كل من النظامين إلى الطعن في أهلية وشرعية الآخر. أما الإنتقال من سياسة «الاحتواء» إلى استراتيجية «تغيير النظام» فإنه ينطوي على رفض التعايش، ورفض القبول بالتعددية، وإدارة مباراة الصراع على أنها «مباراة صفرية» وليس على أساس أنها مباراة مصالح ومكاسب متبادلة. هذا التغيير في استراتيجية الحرب الباردة يترتب عليه عدد من النتائج من أهمها أن الحرب الباردة الثانية ليس مقدرا لها أن تكون طويلة مثل الأولى، وبدلا من أن تكون عدة عقود من الزمان، فإن واضعي استراتيجية «تغيير النظام» يطمحون إلى تحقيق هدفهم الاستراتيجي الكبير خلال عدة سنوات فقط. ولتحقيق هذا الهدف في عدة سنوات، فلن تكون سياسات التعايش ملائمة، وإنما سيتعين عليهم الانتقال إلى سياسات عدائية تتخذ أشكالا أقل من الصدام العسكري المباشر على نطاق واسع.
رغم التصعيد ضد الصين، فإن الولايات المتحدة ما تزال حريصة على استمرار القنوات المفتوحة للحوار والإتصالات بين الطرفين
في هذا الصدام ستكون الولايات المتحدة متعجلة للحصول على النتيجة المبتغاة، وفي هذه الحالة، فإن الصين من المرجح أن تفضل السياسة ذات النفس الطويل، وهو ما سيضع الإدارة الأمريكية في مأزق حاد، قد يدفع إلى الحرب.
ونستطيع بالفعل أن نرصد تعدد أشكال تلك السياسات العدائية في أمثلة كثيرة منها الحرب التجارية، والحصار التكنولوجي، والحرب الدبلوماسية، والحرب الإعلامية، والحرب في مجالات البحث العلمي والبعثات التعليمية، والحرب الثقافية ضد قيم المجتمع الصيني خصوصا ما يتعلق منها بوباء فيروس كوفيد ـ 19، والحرب الشرسة على مشروع مبادرة الحزام والطريق، والاجتهاد في سك مصطلحات شعبوية تخلق صورة سلبية لدى الجمهور العالمي عن الصين مثل «مصيدة الديون الصينية» التي تهاجم نمط الإقراض الصيني للدول النامية في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، وكذلك مصطلحات متعلقة بفيروس كورونا، يرددها دونالد ترامب في تصريحاته مثل «الفيروس الصيني»، والحرب على الحزب الشيوعي الصيني، وهي حرب سياسية بامتياز تضرب في صميم نظام القيم والإدارة السياسية في الصين.
وكما ذكرت فإن الهدف النهائي لهذه السياسات هو «تغيير النظام» في الصين. ويبدو من الخطاب السياسي للإدارة الأمريكية، أنها تعمل على تحقيق ذلك من خلال تغيير الحزب الشيوعي الصيني من الداخل. ومن الصعب أن نتصور تبني الإدارة لمثل هذا المفهوم للتغيير ما لم تكن هناك أدوات مادية تم إعدادها مسبقا، من أجل تحويل هذا المفهوم إلى سياسة ناجحة. وليس من المستبعد أن تكون أجهزة المعلومات والتجسس الأمريكية قد تسللت إلى داخل الحزب الشيوعي الصيني، من خلال تجنيد بعض طلاب البعثات، أو بعض أعضاء الوفود التي يتبادلها البلدان في المجالات المختلفة. وتمثل هذه وغيرها جزءا من المهام الوظيفية المستديمة لأجهزة المعلومات في البلدان المختلفة، وليس في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين فقط، كذلك تشمل هذه الأدوات استخدام المنشقين عن الحزب الشيوعي الصين في الداخل، ودعاة الديمقراطية في هونغ كونغ.
في خطابه الأخير في مكتبة نيكسون في 23 يوليو، دعا وزير الخارجية الأمريكي مايكل بومبيو زعماء العالم إلى الدفاع عن مصالحهم القومية وعن سيادة بلدانهم، وعن قيم العالم الحر، وقال صراحة إن الصين تقف ضد العالم الحر، وهو ما يهدد المستقبل ويضع «مستقبل أولادنا وأحفادنا تحت رحمة الحزب الشيوعي الصيني»، حسب تعبيره. وانتقد الدول التي تخشى اتخاذ إجراءات ضد الصين بسبب الخوف من أن ترد الصين بإغلاق أسواقها أمام منتجات ومصالح هذه الدول، كما انتقد الأكاديميين والسياسيين، الذين يعتقدون أن القرن الواحد والعشرين هو قرن الصين، وذكر أن هذه نظرية خاطئة، وأن العالم الحر هو الذي يكسب وليس الصين، مشيرا إلى أن القوة الأمريكية ليست في انحدار، لأن الصينيين «يعتمدون علينا في تطورهم أكثر مما نعتمد عليهم». ولم يتوقف بومبيو عند حد انتقاد دول العالم المترددة في اتخاذ مواقف ضد الصين، وإنما انتقد الإدارات الأمريكية السابقة منذ ريتشارد نيسكون، واتهمها بأنها صنعت من الصين «فرانكنشتاين»، وأن الرئيس الأمريكي الحالي ترامب قرر إنهاء هذه السياسة في التعامل مع الصين.
وفي سياق هذه السياسة تعمل وزارة الخارجية الأمريكية مع وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي والمباحث الفيدرالية والمدعي العام، على تقديم الأدلة للعالم التي تبرهن على خطورة التهديد الصيني، وضرورة الوقوف ضده. ومن المعروف أن بومبيو قام بإجراء اتصالات خلال الأسابيع القليلة الماضية لتشكيل تحالف ديمقراطي عالمي بقيادة بلاده ضد الصين. وقال في خطابه إنه تحدث في هذا الشأن مع زعماء دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وفيتنام واستراليا وغيرها، لكنه لم يوضح ما إذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تشكيل حلف سياسي دائم؟ أم أن المسألة لا تتجاوز حدود الحملة السياسية المعادية للصين في الوقت الراهن؟ وكانت هذه الحملة قد بدأت بالفعل عقب صدور استراتيجية الأمن القومي الجديدة في ديسمبر 2017، ووضعت الصين ضمن قائمة خصوم الولايات المتحدة مع دول أخرى مثل روسيا وإيران وفنزويلا وكوبا.
رغم التصعيد ضد الصين، فإن الولايات المتحدة ما تزال حريصة على استمرار القنوات المفتوحة للحوار والاتصالات بين الطرفين، سواء في ما يتعلق بموضوعات الصراع مثل المفاوضات التجارية، أو ما يتعلق بالتقليل من احتمال حدوث صدامات عسكرية محدودة، خصوصا في منطقة بحر الصين الجنوبي، المزدحمة حاليا بالأساطيل البحرية وحاملات الطائرات والمناورات العسكرية، التي يجري البعض منها بالذخيرة الحية، وآخرها المناورات الضخمة، التي بدأتها القوات البحرية والجوية الصينية يوم السبت 25 يوليو وسوف تستمر حتى الأسبوع الأول من أغسطس. وقد أعرب وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر عن رغبته في ترتيب زيارة للصين، بهدف إجراء مباحثات مع القيادات العسكرية هناك، بشأن إقامة نظام لاتصالات الطوارئ العاجلة، بما يزيح خطورة أن تتحول الاستفزازات العسكرية إلى صدامات مسلحة، أو أن تتطور الصدامات إلى حرب إقليمية في المنطقة. وفي كلمته في مكتبة نيكسون، شن بومبيو هجوما قاسيا على جيش التحرير الشعبي الصيني، واتهمه بأنه لا يعمل لحماية الشعب الصيني، وإنما يعمل من أجل إقامة امبراطورية، تمتد خارج حدود الصين، يسيطر عليها الحزب الشيوعي. وقد أكد في ذلك الخطاب أيضا أن الحديث مع الصينيين لن يتوقف ولن ينقطع، ولكن واشنطن ستحكم على القيادة الصينية ليس بما تقوله، وإنما بما تفعله، مشيرا إلى لقائه الأخير مع وزير خارجية الصين في هونولولو، الذي قال إنه لم يسفر عن أي تقدم، وقال إن الصين تراهن على أن الولايات المتحدة سوف تتراجع وتخضع للمطالب الصينية.
وفي مواجهة محاولة الولايات المتحدة إقامة تحالف دولي مضاد، فإن القيادة الصينية تعمل على أكثر من محور، الأول هو تعزيز التماسك الداخلي، خصوصا في الأقاليم الإثنية أو الدينية المختلفة على أطراف الصين مثل منطقة الإيغور المسلمة ومنطقة التبت الصينية المتمتعة بالحكم الذاتي، إضافة إلى المناطق الأخرى ذات المستوى الاقتصادي الأقل من المتوسط العام في الصين، التي تعاني أيضا من انتشار الفقر. المحور الثاني يتمثل في زيادة مستوى التعاون المتبادل مع دول جنوب شرق آسيا، خصوصا دول رابطة آسيان، وتعزيز شبكة المصالح المتبادلة بين الصين وهذه الدول، لتقليل احتمال استخدامها من جانب الولايات المتحدة كقواعد للتحرش بالصين، أو مراكز للتجسس واختراق المجتمع الصيني من الداخل. وتهتم الصين بشكل خاص أيضا بتعزيز علاقاتها مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية في شرق آسيا، وترسيخ علاقاتها بباكستان في جنوب القارة.
المحور الثالث هو تعزيز القوة العسكرية الصينية بشكل عام، وفي كل من بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي والبحر الأحمر. أما المحور الرابع، فإنه يلتقي مع السياسة الأمريكية الحريصة على استمرار قنوات الحوار مفتوحة بين البلدين، مع اتخاذ خطوات محسوبة متكافئة وبالمثل ضد الخطوات المعادية التي تتخذها الإدارة الأمريكية، كما حدث في واقعة إغلاق القنصلية الصينية في هيوستن، الذي ردت عليه الصين بقرار إغلاق القنصلية الأمريكية في مدينة تشينغدو.
إبراهيم نوار
القدس العربي