كلمة الرئيس الأمريكي جو بايدن حول أفغانستان، والتي من أجلها فقط قطع إجازته قبل أن يقفل عائدا للاستمتاع بها، كلمة على قدر كبير من الأهمية ليس فقط لتناولها وضعا استحوذ على كل أنظار العالم، مع دخول حركة «طالبان» العاصمة كابل وعملية «الهروب الكبير» الذي صاحبها، وإنما أيضا لأنها كلمة صريحة للغاية ومعبّرة عن تفكير صاحب القرار في الولايات المتحدة وما يفرضه ذلك من دروس وعبر تستلزم من الكثيرين، في منطقتنا بالدرجة الأولى، إعادة تقدير الموقف وضبط ساعاتهم على توقيت المرحلة.
ليس كل ما قاله بايدن جديدا، لكن من الهام جدا أن نسمعه مباشرة وبمثل هذا الوضوح على لسان أكبر مسؤول في الدولة الأولى في العالم. قال بايدن إن المصلحة القومية لبلاده في أفغانستان كانت بشكل أساسي تتمحور دوماً حول منع استهداف الولايات المتحدة بهجمات إرهابية انطلاقاً من هناك و«المهمة في أفغانستان لم تكن يوماً بناء دولة».
هذا يعني أن الولايات المتحدة لم تتحرك يوما إلا للدفاع عن مصالحها المباشرة، وهذا طبيعي جدا فمَا من دولة يمكن أن تُلام إن هي فعلت ذلك بل العكس هو الصحيح، كما أن واشنطن لم تكن يوما معنية ببناء الدولة الضعيفة والمتداعية هناك. يقول الرئيس الأمريكي هذا الكلام رغم كل ما أنفقته بلاده من أجل ترسيخ صورة أفغانستان كدولة باتت أخيرا دولة مؤسسات ديمقراطية وانتخابات وجيش وقوات أمن أشرفت الولايات المتحدة على تجهيزها وتدريبها ليتضح أن كل ذلك ذهب مع الريح، خاصة عندما ينخر الفساد كل مفاصل الدولة وأجهزتها. أول من عليه أن يلتقط مثل هذا الكلام حكام دولة مثل العراق عليهم أن يفهموا، مرة أخرى، أن أمريكا لم تسارع إل نجدتهم من ديكتاتورية صدام حسين وإرساء الديمقراطية وإنما جاءت من أجل حساباتها الخاصة رغم كل التضليل والدعاية بل والكذب الذي صاحب حربها هناك وبقاءها.
قال بايدن متسائلا باستنكار: كم من جيل إضافي من بنات أمريكا وأبنائها تريدون مني أن أرسلهم لمحاربة الأفغان في وقت لن يفعل فيه ذلك الجنود الأفغان؟
الولايات المتحدة لم تتحرك يوما إلا للدفاع عن مصالحها المباشرة، وهذا طبيعي جدا فمَا من دولة يمكن أن تُلام إن هي فعلت ذلك بل العكس هو الصحيح، كما أن واشنطن لم تكن يوما معنية ببناء الدولة الضعيفة والمتداعية هناك
هنا لم يجانب الرئيس الأمريكي الصواب، وفي ذلك رسالة قوية لمن يظن أن الأمريكيين يمكن أن يحاربوا نيابة عنه، لوجه الله أو لوجه مصالح لا تعنيهم بالمعنى الصريح والمباشر للكلمة. ومرة أخرى سنجد أن العراق معني بالتقاط مثل هذا الكلام، وكذلك سوريا، التي لم ترابط القوات الأمريكية سوى حذو آبار النفط فيها فلم يكن يهمها تعذيب عشرات الآلاف من أبناء الشعب السوري وآلاف براميل الموت التي تساقطت على رؤوس مئات الآلاف الآخرين وتفرق شملهم داخل البلاد وخارجها.
قال بايدن إن الحكومة الأفغانية انهارت بشكل أسرع من المتوقّع، وإن الولايات المتّحدة فعلت كلّ ما بوسعها لدعمها، فقد «أعطيناهم كلّ فرصة لتقرير مستقبلهم. لا يمكننا إعطاؤهم الإرادة للقتال من أجل مستقبلهم».
هذا يعني أنه لو تغيّرت موازين القوى يوما في العراق بشكل درامي ورأينا طرفا ما يدخل في صراع مسلح دام مع الحكومة فقد نرى مسؤولا أمريكيا يكرر نفس هذا الكلام، وليس أكيدا أنه لن يفعل حتى لو كان هذا الطرف تنظيم مثل «القاعدة» أو «الدولة الإسلامية». صحيح أن واشنطن حاربتهما من قبل بضراوة هناك ولكن من يضمن أنها قد لا تراجع حساباتها كما فعلت مع «طالبان» التي هي بنظر كثيرين ليست مختلفة كثيرا عنهما؟.
قال بايدن إنّ «منافستينا الاستراتيجيتين الحقيقيتين، الصين وروسيا، كانتا ترغبان بأن تستمرّ الولايات المتحّدة إلى ما لا نهاية في تكريس مليارات الدولارات من الموارد وفي الاهتمام بتحقيق الاستقرار في أفغانستان».
هذا يعني أنه من الصعب عزل القرار الأمريكي بالخروج عن حسابات واشنطن في تعاملها مع القوى الدولية المنافسة لها، إن بالمعنى العسكري أو الاقتصادي، وبالتالي فالقرار لم يكن لاعتبارات داخلية أمريكية أو أفغانية بالكامل.
قال بايدن إن بلاده «سوف تستمرّ برفع الصوت عالياً بشأن الحقوق الأساسية للشعب الأفغاني والنساء والفتيات» تماما مثلما أعلن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أنّ الولايات المتّحدة لن تعترف بأي حكومة تقودها حركة طالبان في أفغانستان إلا إذا احترمت الحركة الإسلامية المتشدّدة حقوق النساء» وأن واشنطن
«تشترط للتعامل مع الحكومة الأفغانية المقبلة أن تحافظ هذه الحكومة على الحقوق الأساسية لشعبها».
هنا لا بد أن نبحث عما إذا كانت واشنطن فعلت ذلك من قبل أو الآن مع دول أخرى في العالم حتى نصدّقها أنها ستفعله حتما مع أفغانستان؟ الجواب واضح وهو لا ولافائدة في سرد الأمثلة فهي كثيرة ومعروفة في أكثر من قارة ومعروفة لدينا في منطقتنا على وجه التحديد، ولكنها «البهارات» التي تحتاجها كل طبخة، ولو لم تكن طازجة بالكامل، حتى وإن غاب عن الكثيرين أنهم سبقوا أن عرفوها وذاقوها في محطات مختلفة من التاريخ… لكنه النسيان أو التناسي.
محمد كريشان
القدس العربي