كما كانت هجمات 11 سبتمبر 2001 علامة فارقة في السياسة الدولية، كرّست موقع الولايات المتحدة قطبًا أعظم في النظام الدولي، وأحدثت تغييراتٍ عميقة في بنية النظام الإقليمي للمنطقة الممتدة بين أفغانستان وشرق المتوسط، سوف يصبح يوم سقوط كابول في 15 أغسطس/ آب 2021 بيد حركة طالبان، على الأرجح، علامةً فارقةً وبداية مرحلةٍ جديدة، لا تلبث أن تتضح معالمها وتداعياتها الإقليمية والعالمية. ليس من الموضوعية بمكان وصف ما حصل في أفغانستان، خلال النصف الأول من شهر أغسطس/ آب الحالي، هزيمة عسكرية للولايات المتحدة، وحلف الأطلسي، لكن الطريقة التي انهارت بها الدفاعات الأفغانية، وسرعة سيطرة “طالبان” على أفغانستان، لا تدع مجالا للجدل بأن ما حصل يمثّل هزيمة سياسية ومعنوية كبرى، وفشلا صادما لعشرين عامًا من السياسات الأميركية في هذا البلد، بحيث يبدو معها سقوط الموصل وانهيار الجيش العراقي أمام تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014 مجرد تفصيل صغير.
لكن دعنا نترك ذلك جانبا لحظة، ونركز على مشهد الفوضى العارمة التي حصلت في مطار كابول في أثناء عمليات إخلاء الدبلوماسيين وموظفي السفارات والمتعاقدين المدنيين. زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، والمرشح لخلافة المستشارة الألمانية، أرمين لاشيت، وصفه بأنه “أكبر إخفاق لحلف الأطلسي منذ تأسيسيه، ويضعنا أمام تحول تاريخي”. قد يبالغ بعضهم، بسبب المشاهد الحية التي تصل من كابول، في تقدير تداعيات ما حصل في أفغانستان أخيرا على مكانة الغرب وصورته في العالم، لكن الحقيقة التي لم يعد ممكنا إنكارها أن الولايات المتحدة، خصوصا، تخفق، منذ نحو عقدين، بشكل مريع في إدارة الأزمات والتعامل مع التحدّيات الداخلية والخارجية التي تواجهها. وقد كشفت رئاسة ترامب البائسة بوضوح عن عمق هذه المشكلة التي بدأ شعورنا بها يبرز منذ الخلاف على نتائج انتخابات عام 2000 بين جورج بوش الابن وآل غور، وتوالت بعدها وصولا إلى الفشل في إدارة أزمة كورونا والخلاف على الانتخابات الرئاسية الأخيرة واقتحام مبنى الكونغرس لمنع التصديق على نتائجها، مرورا بالفشل في غزو العراق والتعامل مع برنامج إيران النووي وثورات الربيع العربي.
تبرّر الولايات المتحدة سلوكها الدولي الراهن بأنها لم تعد تملك الرغبة، ولا الإمكانات، للعب دور الشرطي في العالم، وأنها تريد التركيز أكثر على مصالحها الاستراتيجية ومنافسيها الاستراتيجيين. تقول واشنطن هذا وكأنها كانت تؤدّي دور جمعية خيرية خلال العقود السبعة الأخيرة التي تبوأت فيها مقعدها قوة عظمى عالمية، في حين أن الثقافة السياسية الأميركية تقوم في جوهرها على النفعية والمصالح الذاتية، فهي لم تتحرّك مرّة في كل المناسبات الـ 207 التي تدخلت فيها حول العالم، منذ الحرب مع إسبانيا عام 1898، إلا دفاعا عن مصالحها، ماديةً كانت أو معنوية.
لواشنطن، طبعًا، أن تنسحب أو تنكفئ بما يتفق مع مصالحها، لكن يمكنها بالتأكيد أن تفعل ذلك بطريقةٍ أكثر تنظيما وأكثر احتراما، بحيث لا تترك تداعياتٍ أسوأ من تداعيات استمرارها في الانخراط في أزمات المنطقة والعالم. الطريقة البائسة التي اختارتها واشنطن للخروج من أفغانستان تبعث ثلاث رسائل مهمة، سنرى ترجمتها خلال السنوات المقبلة. الأولى موجهة إلى الحلفاء، تقول إنه لم يعد في مقدورهم الثقة بها والاعتماد عليها، وأنه بات عليهم البحث عن طرق أخرى لحماية أنفسهم ومصالحهم. هذا يعني أننا سنكون أمام موسم حج عالمي نحو بكين وموسكو، حيث يقدم الرئيسان، الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ، نفسيهما حلفاء موثوقين. الرسالة الثانية إلى الخصوم، وهما قسمان: الأول، يشمل دولا مثل الصين وروسيا وإيران التي باتت تستشعر ضعفا أميركيًا بعد مشاهد أفغانستان، ويتوقع أن تتّبع بناء عليه سياسات أكثر جرأة في مواجهتها، وكان ملفتا تعبير إيران عن سعادتها بما اعتبرته هزيمة “مذلّة” للولايات المتحدة في أفغانستان، الثاني، يشمل الجماعات والتنظيمات الجهادية التي أعاد إليها “انتصار” حركة طالبان “المدوي” الروح التي سلبتها منها هزيمة “داعش” في العراق وسورية. بناء عليه، سوف نشهد على الأرجح طفرة في نشاط الجهادية العالمية بعد إخفاق الأميركيين في أفغانستان، لا تقل عن الطفرة التي أعقبت هزيمة السوفييت وخروجهم منها قبل ثلاثة عقود. الرسالة الثالثة إلى دعاة الحرية والتغيير في العالم: أنتم وحدكم .. لا تنتظروا منا شيئًا.
مروان قبلان
العربي الجديد