بعد عشر سنوات ونصف السنة من نزف الدم وخراب كل ما هو حيّ على الأرض السورية، تعيدنا، نحن السوريين، أحداث درعا أخيرا وما يتمتع به أهاليها من طيبة وأصالة، إلى المربع الأول، أي إلى النصف الثاني من مارس/ آذار عام 2011، حيث كتب الأطفال عباراتٍ تستشرف شمولية الربيع العربي، وتؤكّد عمقه وضروراته .. وتستدعي العودة إجراء مقارنةٍ بين ما كان عليه السوريون وما صاروا إليه، لتأكيد حقيقة أنَّ بعضهم لا يزال يكابر في الاعتراف بها، وهي أن تدمير سورية قد أتى بالرعونة والاستهتار وانعدام الحس بالمسؤولية الوطنية .. فإذا كانت بداية شرارات الثورة السورية قد لمعت من صوب درعا، فهذا لا يعني أن بقية البلاد السورية كانت تنعم بالهدوء والسلام، بل لعلَّها كانت أشبه بمرجل محكم الإغلاق، ينتظر رفع حرارته درجة واحدة ليحدث الانفجار، وقد فعلها عاطف نجيب، وأيده ابن خالته “السيد الرئيس” ليحصل ما قد حصل!
في ذلك الوقت، كان يمكن أن تحلّ مشكلة درعا بسلام، ومن دون إغراق سورية كلها بالدماء، وتدميرها، وتهجير أهلها وإفقار من تبقّى منهم وإذلالهم. نعم كان يمكن لها أن تحلّ لو أن الممسكين بمفاصل دولة حافظ الأسد العميقة يتمتعون بحسٍّ وطني أو إنساني، أو يفهمون لغة غير التي تربّوا عليها، لغة الحذاء العسكري.. ولو لم يزدهم “الوريث” شططاً وسفاهة، بضعفه وتردده في اتخاذ قراراته المفصلية. وما زاد الأمر سوءاً أن سورية، قلب بلاد الشام، عرضةٌ لمطامع دول إقليمية، وهي مجال صراع تاريخي طويل. وقد لعبت جلافة هؤلاء الممسكين بتلابيب الدولة العميقة، وفظاظتهم دوراً مباشراً في إشعال فتيل الأزمة، إضافة إلى عبث الأصابع الخفية بتوجهات القصر الجمهوري، فتجعل رأسه ينقلب على وعوده وقراراته.
لعبت جلافة هؤلاء الممسكين بتلابيب الدولة العميقة، وفظاظتهم دوراً مباشراً في إشعال فتيل الأزمة
كان بالإمكان تجاوز مشكلة درعا وفق ما اتفق عليه رجل الأمن المكلَّف آنذاك، محمد ناصيف، مع وجهاء درعا ووجوه أحيائها الذين جرى اعتقال بعضهم، بعد الاتفاق مباشرة، وكان الأجدى، في ذلك الوقت، برأس النظام، “طبيب العيون”، أن يفكر ملياً بالعبارة التي كتبها أطفال درعا على جدران مدارسهم “جاك الدور يا دكتور”. إذ هي لا تعني غير تلك الإصلاحات التي رآها ووعد بتنفيذها منذ أن ورِّث العهد، ولكن يبدو أن قِصَر النظر، والتفكير الضيق بكرسي الرئاسة، وامتداد ذراع التدخل الإقليمي النافذة قد منعته من ذلك.
أهالي درعا لم يتغيّروا أبداً، ظهر ذلك في تعاملهم مع أسرى سرايا الجيش السوري التي حاصرت درعا البلد أكثر من شهر ونصف الشهر، وقصفتها عشوائياً، إذ أكدت تلك المعاملة أنَّ أهالي حوران لا يزالون على صفاء نياتهم وأخوَّتهم السورية. ولكن الاعترافات المشينة لعدد من أولئك الأسرى كشفت حقيقة ما يجري في الجنوب السوري، وما يخطّط له، إذ أوضح بعضهم أنهم يتلقون تعليماتهم من قادة المليشيات الإيرانية، وبتواطؤ من النظام مع المطامع الإيرانية ذات الأبعاد الاستراتيجية في الجغرافيا والديموغرافيا السوريتين.
إذا كان النصر الذي حظي به النظام شعباً جائعاً ووطناً مدمّراً، ممزّقاً، ورئيساً ملاحقاً مع منظومته الحاكمة، فبئس ذلك النصر
اليوم غير الأمس، هذه بديهة، وهي في الواقع السوري أكثر بروزاً، إذ استُبدِل بعاطف نجيب ضباط روس، وقادة مليشيات إيرانية تضم تحت أجنحتها ما تبقى من فرق الجيش السوري وسراياه. وفي الأمس، وقبل عقدين، جاء بشار الأسد، بغض النظر عن شكل مجيئه، رئيساً على عرش مستقر، وشعب مسالم، لا طموح له سوى شيء من انفراج داخلي، وبعض من حرية، يعمل من خلالهما للخلاص من أمراض الاستبداد العسكري الناجمة عن شدّة القمع وتفاقم الفساد وحال التمييز بين المواطنين، وكل ما يعرقل نموَّ الوطن وارتقاءه. وفي الأمس أيضاً، كان قرار سورية، في معظمه، مرتبطاً بالقصر الجمهوري، وكانت سورية موحدة أرضاً وشعباً، على الرغم مما ذكر من مظالم وأوجاع. اليوم غدا القصر، بما يمثله من دولةٍ يفترض أنها ترعى مصالح شعبها، في مواجهة الشعب السوري كله. ولا أشير هنا إلى من تظاهر وقوبل بالرصاص الحي! لا أبداً، بل أشير إلى هؤلاء الذين صدَّقوا فكرة المؤامرة الخارجية، واعتقدوا أنهم كانوا يعيشون في جنّة حافظ الأسد وابنه من بعده. اليوم أخذ هؤلاء يصرخون أكثر من غيرهم، فالوجع الذي يعيشونه لم تشهده سورية منذ الاستقلال. ويبدو أن هؤلاء قد أدركوا أن أساس البلاء كامنٌ في القصر الجمهوري ذاته، فاليوم يشير هؤلاء إلى الفاسدين الذين لم يعد ممكناً التعايش معهم، ويغبطون، في الوقت نفسه، من سبقهم إلى الهجرة، ويتنادون إلى هجرةٍ جماعية للشعب السوري كله، تاركين سورية للفاسدين وحماتهم. وفي ذلك دلالة واضحة على وعي جديد يتكوّن. ولم يكن ذلك حبراً على ورق، بل خرجت مظاهراتٌ في عدد من قرى الساحل التابعة لمدينة جبلة، كما خرجت مظاهرات في مدينة بانياس، شارك فيها مسلمون ومسيحيون، سنة وعلويون، ورفعوا شعارات “الخبز للشعب” و”الدين لله والوطن للجميع” و”الشعب السوري واحد”، وكذلك فعل أهالي مصياف متعدّدة الأطياف. كذلك برز مثل هذا التذمر من أهالي حلب الذين تقدموا بمطالب إلى المسؤولين المحليين بتأمين الضرورات المعيشية للناس، وبرز التذمر أيضاً من خلال فرض الدولة “إتاوات” على رجال الأعمال الحلبيين خارج إطار الضرائب أو القوانين النافذة.
لا تشير تلك الاحتجاجات إلى الحال المعيشية فقط، بل إنها تؤكد “ضمناً” الأخطار المحدقة بتقسيم سورية إلى مناطق نفوذ من خلال فيدراليات، أو مناطق حكم ذاتي، فمنذ أيام افتتحت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مكتباً لها في سويسرا، وتطالب المجتمع الدولي بمنحها حكماً ذاتياً. كما تجري أحاديث عن ترتيبات مشابهة في درعا والسويداء، تدفع إليها مراكز نفوذ الدول التي تتصارع هناك. فإذا كان النصر الذي حظي به النظام شعباً جائعاً ووطناً مدمّراً، ممزّقاً، ورئيساً ملاحقاً مع منظومته الحاكمة بجرائم ضد الإنسانية، فبئس ذلك النصر. والأجدى بمن يحمل مسؤولية ذلك أن يتوقف عن ذلك العبث، والطيش. إذ يظن أنه يلعب على حبال التناقض. أبداً إنه أضعف من ذلك بكثير، فهو ليس أكثر من كرةٍ تتقاذفها أرجل الأغراب والطامعين، وبين كل شوط يسقط شيء من عزّة سورية وكرامتها! وأكاد أقول آن له أن يغادر، لكنني أستدرك: إنه لا يملك تلك الخطوة الشجاعة والحكيمة. وتبقى الإزاحة ضرورة موضوعية لبدء الحل في سورية، فهل تأتي بها موجات الغضب التي أخذت تتراكم فوق الأرض السورية؟
محمود وهب
العربي الجديد