على الضد مما ذهبت إليه قراءات عديدة، وما اعتبرته حركات إسلامية انتصارا لحركة طالبان وهزيمة لأميركا، يسمح المشهد بقراءة مختلفة تقول إن الولايات المتحدة انسحبت من أفغانستان وفق تصور سياسي محسوب ومدروس جيدا. وتستند هذه القراءة إلى معطيات سياسية واقتصادية أميركية، داخلية ودولية.
غزت الولايات المتحدة أفغانستان تحت راية “الحرب على الإرهاب” بعد تنفيذ تنظيم القاعدة غزوته على الأراضي الأميركية، وتدميره برجي مركز التجارة الدولية في نيويورك، حيث قتل ثلاثة آلاف شخص، واستهدافه مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) من دون وقوع خسائر بشرية، ما جعل الرأي العام الأميركي يؤيد الانتقام من المنفذين والداعمين لهم. وهذا جاء على هوى إدارة الرئيس جورج بوش الابن وتيار المحافظين الجدد، المسيطر فيها، صاحب دعوة “أمركة العالم بالقوة”؛ واعتماد نشر “الفوضى الخلاقة”، وإقامة “الشرق الأوسط الكبير”، آليات لتنفيذ الأمركة، فتم استثمار الحدث والتأييد الداخلي والدولي للرد على العدوان. وقد قدّمت حركة طالبان التي كانت تحكم أفغانستان، في ذلك الوقت، خدمة كبيرة للإدارة الأميركية، حين رفضت تسليم زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، وإبعاد التنظيم عن الأراضي الأفغانية، بذريعة مبايعة إمارة أفغانستان الإسلامية بن لادن.
تم الغزو بالاتفاق مع قوى محلية أفغانية، لم تصمد “طالبان” طويلا، واحتلت القوات الأميركية وحلفاؤها المحليون العاصمة ومعظم الأراضي الأفغانية. تلا ذلك غزو القوات الأميركية العراق، تنفيذا لمخطط المحافظين الجدد المذكور أعلاه، وتحت ذرائع واهية: امتلاك أسلحة دمار شامل والتنسيق مع تنظيم القاعدة.
بلغ عدد القوات الأميركية التي زجّت في الحرب حوالي مائة ألف جندي، وبلغت كلفة الحرب مائة مليار دولار سنويا
مع الوقت تحول النصر السريع في أفغانستان والعراق إلى ثقبٍ أسود يستنزف القوة الأميركية البشرية، 2300 قتيل ونحو 20.660 جريحا، في أفغانستان. و4487 قتيلاً و32.000 جريح في العراق، وكذا القوة الردعية؛ ويبتلع أموال دافعي الضرائب الأميركيين، حوالي 2.2 تريليون دولار، صرفت على محاربة تمرّد “طالبان” التي عادت إلى الجبال وواصلت القتال على طريقة حرب العصابات، بلغ عدد القوات الأميركية التي زجّت في الحرب حوالي مائة ألف جندي، وبلغت كلفة الحرب مائة مليار دولار سنويا، صرف منها على الجيش الأفغاني، تسليحا وتدريبا، حوالي 88 مليار دولار، وإعادة الإعمار وتأهيل المؤسسات الحكومية. “كان عاما 2003 و2004 أكثر السنوات التي مرّت بها أفغانستان هدوءا منذ السبعينيات. ولكن، منذ العام 2006 تصاعدت حدّة مقاومة طالبان، وردّ التحالف الغربي عليها. وبين العامين 2009 و2013، نفذت الولايات المتحدة وحلفاؤها شيئًا يشبه احتلالا واسع النطاق للبلاد. وفي 2011، بلغت القوة المشتركة للقوات الأميركية والقوات المتحالفة والأفغانية المنتشرة ضد تمرّد “طالبان” ذروتها عند أكثر من 450.000 جندي” وفق آدم كويز في مقالته “مقبرة الإمبراطوريات: لماذا فشلت القوة الأميركية في أفغانستان؟” – ذا نيوستيتسمان: 5/8/2021. وبلغ إجمالي كلفة الحرب في العراق حوالي ثلاثة تريليونات دولار. وقد تزامن ذلك مع الأزمة المالية العالمية عام 2008، وتبعاتها على الاقتصاد والقدرة الشرائية للمواطنين الأميركيين، حيث تلاشت البحبوحة وارتفعت نسبة الفقر والبطالة والمحتاجين لإعانات حكومية. وهذا بالإضافة إلى ظهور مشكلاتٍ كبيرةٍ في البنية التحية والخدمية، كشفت عنها الكوارث الطبيعية، الأعاصير وحرائق الغابات، ما دفع الرأي العام الأميركي إلى التململ من سياسات القوة ولعب بلاده دور شرطي العالم، وهدر التريليونات خارج البلاد، والبلاد أحوج إليها وأحقّ بها، “وعندما ترى الأرقام، يصبح من الأسهل فهم السبب الذي جعل آثار الحرب الأفغانية في المجتمع الأميركي كبيرة كما هو حالها”، وفق آدم كويز في المصدر المذكور، وقد تجلى هذا التحول باختيار رئيس ديمقراطي، باراك أوباما، وعد في حملته الانتخابية بتغيير التوجه والانسحاب من العراق، حيث كانت المواجهة شديدة والكلفة، بشريا وماديا، مرتفعة.
في السياق، جاء سحب القوات الأميركية من العراق عام 2011، والتمهيد لسحبها من أفغانستان عبر العمل على تشكيل حكومة وحدة وطنية أفغانية مستقرّة وقادرة وتأهيل الجيش الأفغاني وتسليحه وتدريبه. وهو ما عملت إدارة الرئيس الجمهوري، دونالد ترامب، على استكماله، تلبية لرغبة الرأي العام بوقف هدر المال العام على حروبٍ خارجية ووضعها في مشاريع تنمية داخلية، عبر فتح مفاوضاتٍ مباشرةٍ مع حركة طالبان التي كانت قد أعادت تنظيم صفوفها وحشد مقاتليها وتعزيز قدراتها القتالية وبسط سيطرتها على مساحات واسعة من البلاد، مستفيدة من الصراعات داخل الحكومة الأفغانية، بين الرئيس ومنافسه عبدالله عبدالله، ومن الاستياء العام من التمييز بين الريف والمدينة والفساد وتدنّي مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وغياب مشاريع تنمية، أكثر من 12 مليون أفغاني، ما يعادل ثلث السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأكثر من نصف السكان مصنفون فقراء، للاتفاق على تنظّم عملية خروج القوات الأميركية والحليفة ووقعت معها “اتفاقية الدوحة” في فبراير/ شباط 2020. وهو -سحب القوات – ما وعد به المرشّح الديمقراطي، جوزيف بايدن، خلال حملته الانتخابية؛ ونفّذه عند نجاحه.
بروز تحدّيات كبيرة أمام أميركا فرض تغيير طبيعة تعاطيها في أفغانستان، فالمواجهة هنا مختلفة؛ ليست مباشرة، ساحاتها أشمل وأعقد
لقد تغيرت الأوضاع، تنامى تحفظ المجتمع الأميركي على المغامرات الخارجية وزاد ضغطه على الإدارات المتعاقبة لتغيير التوجه وإعطاء الأولوية المطلقة للداخل. وتزامن هذا مع تنامي الخسائر البشرية والمادية وتصاعد الكلفة العامة؛ وبروز تحدّيات كبيرة على الصعيد الدولي أكثر تأثيرا على الموقع والقوة الأميركيتين، ببروز الصين تحدّيا اقتصاديا وتجاريا وسياسيا؛ وعودة روسيا للعب على المسرح الدولي. وهذا فرض تغيير طبيعة التعاطي، فالمواجهة هنا مختلفة؛ ليست مباشرة، ساحاتها أشمل وأعقد، مواجهة في الصناعات الدقيقة والفضاء السبراني والأسلحة فائق السرعة والتدمير؛ ما يستدعي إعادة نظر شاملة في التعامل بدءا من العودة إلى توطين الصناعات وتقليص دور سلاسل التوريد الخارجية فيها؛ والصرف على البحث العلمي والابتكار؛ وما يعنيه من ضرورة تطوير البنى التحتية، والتحرّك على ساحات كثيرة وحساسة لمواجهة التمدّد الصيني، مشروع الحزام والطريق، والتضييق على خططه، وحشد الحلفاء للمشاركة في الاحتواء والتطويق، والتصدي للتحدّي الروسي على صعد مختلفة، الأسلحة والردع والهجمات السبرانية، قدرت دراسات استراتيجية كلفة خطة بايدن للنهوض بالولايات المتحدة وتهيئتها للمواجهة مع الصين وروسيا بـ 3.5 تريليونات دولار.
في هذا السياق، جاء قرار الإدارة الأميركية إعادة النظر في دورها في الصراعات الإقليمية الطويلة وغير المجدية ووضع خطة بديلة لانتشار القوات الأميركية في الشرق الأوسط، سحب صواريخ الباتريوت من السعودية والكويت والإمارات ونقل جزء هام من قواتها من هذه الدول ونشرها في الأردن؛ والاتفاق مع الحكومة العراقية على سحب القوات المقاتلة من العراق، وسحب القوات الأميركية من أفغانستان. قرار مبني على اعتبارات أولية تبدأ بالتخلص من الحروب المديدة والمكلفة وذات الجدوى المحدودة، ولا تنتهي عند خلط الأوراق بإلقاء كتلة اللهب الأفغانية المتفجّرة في ساحات الخصوم، الصين وروسيا وإيران، الذين سينشغلون بالصراع على ملء الفراغ واحتواء القوة الأفغانية الجديدة ببنيتها العقائدية وتطلعاتها الجيوسياسية وعلاقاتها السياسية والتنظيمية مع الحركات الجهادية في دول الجوار والعالم، ويصطدمون مع بعضهم البعض لاعتباراتٍ تتعلق بالمصالح والحسابات والمغانم والخسائر المحتملة في ضوء ما تحويه أفغانستان من ثرواتٍ بكر غير مستثمرة، الليثيوم والنحاس والبوكسيت والحديد والأتربة النادرة، معادن تعد ضروريةً لتحقيق الانتقال إلى الطاقة النظيفة وحماية المناخ، فالليثيوم أساسي في تخزين الكهرباء في البطاريات ومنشآت توليد الطاقة الشمسية ومزارع الرياح، قدّرت وكالة الطاقة الدولية في مايو/ أيار أن الطلب العالمي عليه سيتضاعف 40 مرّة بحلول عام 2040، والنحاس أساسي في صناعة الأسلاك الكهربائية، والأتربة النادرة، مثل النيوديميوم أو البراسيوديميوم أو الديسبروسيوم، ضرورية في تصنيع المغناطيس المستخدم في صناعات المستقبل مثل طاقة الرياح والسيارات الكهربائية، بالإضافة إلى غناها بالأحجار الكريمة مثل اللازورد والزمرد والياقوت والتورمالين وكذلك بمسحوق الرخام. وقد قدّرت قيمة هذه الثروات الباطنية من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في تقرير مشترك عام 2013 بـ تريليون دولار، وموقعها الاستراتيجي حلقة وصل حيوية في طرق التجارة عبر القارّات ولنقل الغاز والنفط من دول غنية بهما في آسيا الوسطى إلى المحيط الهندي، مثل خط أنابيب “تابي” البالغ طوله 1700 كلم ويربط بين حقول الغاز في تركمانستان وبين الهند مرورا بأفغانستان وباكستان. فقد أنهى الانسحاب الأميركي حالة الطمأنينة والاستقرار التي عرفها الإقليم في ظل السيطرة الأميركية في أفغانستان. وهذا ما عكسته ردود فعل دول الجوار على قرار الانسحاب.
اتسم الموقف الصيني من قرار الانسحاب الأميركي بالقلق والحذر من إمكانية تجدّد أعمال العنف؛ على خلفية ملف المسلمين في إقليم شينجيانغ
الموقف الروسي
انتقدت روسيا قرار الانسحاب الأميركي لحظة إعلانه، مؤكّدة أنه يهدّد الأمن القومي لها ولحلفائها في دول آسيا الوسطى وإيران المجاورة لأفغانستان؛ وبدأت الاستعداد لملاقاة الموقف عند انتهاء سحب القوات الأميركية والحليفة بإجراء مناورات عسكرية مع القوات الطاجيكية والأوزبكية بالقرب من حدودهما مع أفغانستان، وشاركت في مؤتمرٍ ضم الولايات المتحدة والصين وباكستان للاتفاق على موقفٍ موحد نجم عنه إصدار بيان حضّوا فيه الأفغان على التوصل إلى اتفاق سلام ووقف العنف؛ ورفض قيام إمارة إسلامية في أفغانستان، واستثمرت توسّطها بين “طالبان” والحكومة الأفغانية واستضافتها منتدى للحوار بين الأطراف الأفغانية في مارس/ آذار الماضي وعقدها اتفاقا مع وفد الحركة، يقضي بعدم السماح لحركات جهادية، خصوصا من دول آسيا الوسطى، استخدام الأرض الأفغانية منصّة لعملياتها، فأفغانستان، بالنسبة لروسيا، مصدر مخاوف جدّية على منظومة الأمن الإقليمي في آسيا الوسطى، حديقة روسيا الخلفية، في حال تحوّلت أفغانستان إلى بؤرة جذب للحركات الإسلامية. لذا تقرّبت من الحركة بعد سيطرتها على كابول وفرار الرئيس الأفغاني، أشرف غني، بنشر خبر عن هروبه مع كمية كبيرة من المال، وإشادة السفير الروسي في كابول، دميتري جيرنوف، بسلوك الحركة، بقوله “الجماعة، التي لا تزال مصنفة رسميا منظمة إرهابية في روسيا، جعلت كابول أكثر أمانا… والوضع هناك تحت حكم طالبان أفضل مما كان عليه في عهد (الرئيس) أشرف غني”. وسعت، في الوقت نفسه، إلى بناء علاقات قوية مع الأقليتين، الطاجيكية والأوزبكية، تمكّنها من تشكيل تحالف يضم إليهما أقلية الهزارة المقربة من إيران واستخدامه في حرب بالوكالة يستنزف “طالبان” ويحصر الصراع داخل أفغانستان، في حال خرجت عن الصيغة المقبولة، والعمل على حل توافقي يجمع المكونات الإثنية على قواسم مشتركة، وعلى تذليل عقبة تضارب المصالح بين دول جوار أفغانستان، إضافة إلى العمل على إحداث تغيير جوهري في منطلقات حركة طالبان السياسية.
الموقف الصيني
اتسم الموقف الصيني من قرار الانسحاب الأميركي بالقلق والحذر من إمكانية تجدّد أعمال العنف؛ على خلفية ملف المسلمين في إقليم شينجيانغ، ووجود علاقة تعاون وتنسيق قديمة بين “طالبان” والحزب الإسلامي التركستاني الذي يقاتل السلطة الصينية دفاعا عن حق الإيغور في تقرير المصير، حيث سبق للحركة تدريب مئات من مقاتلي الحزب على استخدام الأسلحة الخفيفة والثقيلة وزرع العبوات الناسفة، في حال استتباب الأمر للحركة في أفغانستان، ما دفعها إلى التواصل مع الحركة وتحذيرها من استخدام أفغانستان من قبل أي جهة لتهديد أمن الصين؛ واتفقت معها على احترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وبدأت بتخفيف الضغط على المسلمين الايغور كي تقطع الطريق على محاولات استغلال الملف في التدخل وإثارة مواجهات وعدم استقرار. فالمطلوب، من وجهة النظر الصينية، بقاء الحدود الأفغانية مع دول الجوار هادئة وعدم قيام طالبان بزعزعة استقرار جيرانها، على طول الحدود المشتركة بين الصين (إقليم شينجيانغ المسلم) وأفغانستان 74 كم. ولكسب موافقة الحركة أعلنت الخارجية الصينية استعدادها للاعتراف بنظام تقيمه طالبان.
جاءت سيطرة “طالبان” على كابول في صالح باكستان التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الحركة منذ عقود
لا تتوقف مصالح الصين عند حماية حدودها ومنع استخدام أراضي أفغانستان منصّة للهجوم عليها بل لها مصالح أخرى كبيرة وحساسة مرتبطة بمشروع الحزام والطريق حيث استثمرت مليارات الدولارات في مشاريع بنى تحتية في باكستان، وقد وفّر لها الحضور الأميركي في أفغانستان الأمان، وهي الآن عرضةٌ لتخريب وتعطيل محتملين، وتحتاج للتفاهم مع “طالبان” لضمان عدم التعرّض لها بالتخريب أو الاعتداء على العاملين الصينيين فيها، كما حدث، أخيرا، في باكستان، كما كانت أقامت مشاريع في أفغانستان ذاتها، مثل منجم النحاس في “آيناك”، على بعد 35 كيلومترا من كابول، والذي بدأت باستثماره سنة 2007 بمبلغ أولي قدره ثلاثة مليارات دولار، لكن المشروع جمّد بسبب الحالة الأمنية والسياسية غير المستقرّة، بالإضافة إلى استثمار حقل الغاز في الشمال الأفغاني، وقد سعت إلى التنسيق مع دول الجوار لحماية هذه المصالح، ومغازلة “طالبان” من أجل تعزيز نفوذها في أفغانستان.
الموقف الهندي
اعتبرت الهند الدولة الأكثر خسارة بين دول الجوار بقرار الانسحاب الأميركي بعدما كان الحضور الأميركي، في ضوء تحالفهما في مواجهة الصين، قد منحها فرصة لموطئ قدم وإقامة علاقات عمل مع الاستخبارات الأفغانية ومع شخصياتٍ سياسيةٍ وماليةٍ أفغانيةٍ نافذة تناصب باكستان العداء، وتحقيق مكاسب وازنة عبر تنفيذ مشاريع واستثمارات كبيرة في أفغانستان، إلا أنها بقيت الدولة الوحيدة في المنطقة التي لا تملك علاقاتٍ وثيقةً بحركة طالبان بسبب علاقات الأخيرة بباكستان، وتعاطفها مع مسلمي كشمير، وهو ما يتوقع أن يؤثر على موقعها في المعادلة الأفغانية الجديدة.
الموقف الباكستاني
جاءت سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول في صالح باكستان التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الحركة منذ عقود، عبر الاستخبارات العسكرية الباكستانية التي رعت ولادة الحركة أواسط تسعينيات القرن الماضي، واستمرت في لعب هذا الدور، على الرغم من اعتراض المستوى السياسي الباكستاني، وتحمّل الحكومة انتقادات من دول الجوار والأمم المتحدة لهذا الدور. وهذا سيمنحها فرصةً للقيام بدور مركزي في تحديد وجهة الصراع في أفغانستان في المستقبل، على الرغم من وجود تخوف من انقلاب الحركة، بعد تسنمها السلطة، على حليفتها التقليدية، وسعيها للحصول على اعتراف دولي بسلطتها، ما يضطرّها لإجراء حساباتٍ أشمل من تحالف ضيق مع دولة ضعيفة.
وقعت إيران في ارتباك بسبب التحولات الصاعقة التي تمّت، وسيطرة حركة طالبان على العاصمة قبل موعد الانسحاب الأميركي والغربي في سبتمبر المقبل
الموقف الإيراني
على الرغم من الارتياح الإيراني لقرار واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) الانسحاب من خاصرتها الشرقية، إلا أنها وقعت في ارتباك بسبب التحولات الصاعقة التي تمت على الأرض، وسيطرة حركة طالبان على العاصمة قبل موعد الانسحاب الأميركي والغربي المقرر في شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، وقبل أن تستكمل هي بعض إجراءاتها لضمان عدم انقلاب المشهد السياسي الأفغاني ضدها، ما دفعها إلى اتخاذ خطوات سريعة، أولها الإعلان عن الترحيب بعودة “طالبان” إلى حكم أفغانستان؛ والتحرّك عبر القنوات التي أقامتها معها في السنوات الأخيرة للتنسيق ضد الحضور الأميركي وتبادل الخدمات للضغط عليه ودفعه إلى الانسحاب. وثانيها سحب قوات من لواء “فاطميون” الأفغاني و”سيد الشهداء” العراقي من سورية، ونقلهم إلى أفغانستان تحسّبا لحدوث تطوّرات غير مرغوب فيها ولتعزيز موقف قبائل الهزارة الشيعية، تشكل حوالي 19% من الشعب الأفغاني، ولحماية مصالحها هناك مثل خط أنابيب غاز “إي بي” الذي أعلنت أنها أنهت حصتها من تمديده؛ والذي سينقل الغاز من حقل بارس، جنوب الخليج العربي، إلى باكستان، وثالثها الاستعداد لتنافس وصراع جغرافي سياسي مع اللاعبين الإقليميين والدوليين الذين سيسعون إلى لعب دور أكبر وتحقيق مكاسب ونفوذ أكبر في أفغانستان وآسيا الوسطى، تنافس وصراع مركب ومعقد ويحتاج لإمكانيات وقوى كبيرة في ضوء عدد ووزن الدول المنخرطة فيهما.
صراع جغرافي سياسي واقتصادي قادم
جاء الانسحاب بعد مفاوضات طويلة بدأتها إدارة ترامب، حيث اتفقت على خطة للانسحاب، تتضمن مرحلة انتقالية تديرها حكومة وحدة وطنية تشترك فيها حركة طالبان، وانخرطت فيها إدارة بايدن، تنفيذا لوعده الانتخابي، من جهة، ومن جهة ثانية لتحاشي عقبات وعوائق قد تقيّد تنفيذ عقيدته السياسية في التنافس مع القوى العظمى، بما في ذلك إرباك الخصوم بالقادم الجديد: إمارة أفغانستان الإسلامية.
لن تفوّت الهند فرصة للدفاع عن مصالحها وحماية نفوذها في أفغانستان؛ ومنع تحول أفغانستان إلى عمق استراتيجي لخصمها: باكستان
وعليه، ليس من المبالغة القول إن صراعا حادّا سيحتدم بين دول جوار أفغانستان على ملء الفراغ الأمني والتحكّم بالثروات الهائلة التي تختزنها أرضها، فروسيا التي تتفق مع الصين على التخلص من النفوذ الأميركي؛ وتنسّق معها أمنيا، لن تترك لها الفرصة لالتهام الكعكة الأفغانية وحدها، بل ستكون منافسا شرسا، مع تحاشي الغرق في المستنقع الأفغاني ثانية. والصين هي الأخرى لن تترك فرصةً لتفعيل اتفاقات سابقة مع أفغانستان، حيث سبق لها تشكيل لجنة اقتصادية وتجارية ثنائية معها عام 2015، وافتتاح رحلات شحن مباشرة بينهما في أواخر عام 2018، وخط قطار نقل بضائع يمر عبر أوزبكستان وكازاخستان عام 2019، وتوسيع استثماراتها بربط أفغانستان بمشروع الحزام والطريق، فأفغانستان تمثّل فرصة اقتصادية وتجارية ضخمة، بالنظر إلى ما فيها من معادن وثروات طبيعية أخرى، يمنحها وجود حدود مباشرة بينهما أفضلية على منافسيها، خصوصا أنّ حركة طالبان، المسيطرة على إقليم باداخشان وممر واخان، عرضت مقايضة أمن الحدود باستثماراتٍ صينية كبيرة، ما يسمح بتمهيد الطريق لدخول أفغانستان طرفا في الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني، وتحول ميناء جوادر الباكستاني إلى أهم موقع لوجستي في جنوب آسيا. كما ستحاول استثمار علاقة حليفتها العريقة، باكستان، المنخرطة في تنافس حاد مع خصمهما المشترك، الهند، مع طالبان في حصار النفوذ الهندي تمهيدا لإخراجه من هناك بشكل نهائي.
لن تفوّت الهند فرصة للدفاع عن مصالحها وحماية نفوذها في أفغانستان؛ ومنع تحول أفغانستان إلى عمق استراتيجي لخصمها: باكستان، عبر دعم حركات سياسية وقبلية معارضة وتسليحها، والدفع نحو مقاومة سيطرة “طالبان”، خصوصا إذا أبقت الولايات المتحدة على موارد عسكرية وأمنية في الإقليم للرد على تحوّلات الموقف في حال انفجار حرب أهلية، كما تتوقع دوائر استخباراتية أميركية وأوروبية، ونشوء حالة عدم استقرار أمني وسياسي تمنح الولايات المتحدة وحلفاءها مبرّرا للحفاظ على وجود عسكري كبير بالقرب من أفغانستان والتدخل بشكل مباشر، ما يمنحها (الهند) فرصة مواجهة التحرّك الصيني الباكستاني، ودفع حلفائها الأفغان إلى استهداف البنية التحتية الصينية في أفغانستان، فالقلق الصيني الرئيس مصدره طبيعة العمليات الأميركية المستقبلية في أفغانستان واستمرار “الهيمنة” الغربية على البلاد، لكن من دون الاستمرار بتحمل كلفة الأمن كاملة، كما في العقدين الماضيين، ومن تحول أفغانستان ساحة لمواجهة مباشرة بين دول الجوار، خصوصا الهند وباكستان.
ما حدث على الأرض الأفغانية في الأسابيع الأخيرة؛ هجوم “طالبان” الكاسح وسيطرتها على العاصمة، تم على الضد من الاتفاق الأميركي – الطالباني في الدوحة
أما إيران فتتفق مع الصين في معارضة النفوذ الغربي في أفغانستان، وتميل إلى نجاح الصين وسيطرة الاستثمارات الصينية، ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، فيها، على حساب الغرب والهند، ورفضهما (الصين وإيران) المشترك لدور تركي في حماية المطار في كابول، باعتباره تدخلاً خارجياً يحافظ على النفوذ الغربي في المرحلة المقبلة، وتعتبر فوز الصين فوزا لها في ضوء الشراكة الاستراتيجية الشاملة بينهما.
في الختام، ما حدث على الأرض الأفغانية في الأسابيع الأخيرة؛ هجوم “طالبان” الكاسح وسيطرتها على العاصمة، تم على الضد من الاتفاق الأميركي – الطالباني في الدوحة، والذي قضى، من بين بنود كثيرة، إجراء مفاوضات بين “طالبان” والحكومة الأفغانية على مرحلة انتقالية وحكومة وحدة وطنية. أرادت “طالبان”، بهجومها تفادي شبهة الوصول إلى السلطة بقرار أميركي، من جهة، ورفضها، من جهة ثانية، منح السلطة القائمة شرعية سياسية والتعامل معها على هذا الأساس. وهنا، لا بد من توضيح عدم دقة تقديرات ومواقف سياسية لدول وحركات سياسية هللت لنصر “طالبان” معتبرة ما حصل هزيمة ثانية للولايات المتحدة، في إشارة إلى الهزيمة الأولى في فيتنام، فالفرق شاسع بين انسحاب بقرار سياسي، حتى لو شابت عملية الانسحاب الفوضى والارتباك، وهروب تحت ضغط هجوم الـ”فيت كونغ” الشامل والصاعق، علما أن معظم هذه التقديرات تنطلق من مواقف مسبقة لجهات وأنظمة رافضة لتوجهات إدارة بايدن بوقف التدخل في الصراعات القائمة على خلفية بحثها (الجهات) عمّن يحارب معاركها الخاصة بدلا عنها.
عبدالله العلي