منذ أسابيع، دخلت تركيا في مفاوضات ماراثونية مع الإدارة الأمريكية وأطراف دولية مختلفة لإبقاء قواتها في أفغانستان عقب إتمام انسحاب قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو)، حيث أبدت رغبة كبيرة جداً في الاستمرار بإدارة مطار كابول كمدخل للحفاظ على نفوذ كبير في أفغانستان ولعب دور محوري في إطار مساعيها للتوسع الإقليمي، إلى جانب تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع الإدارة الجديدة في كابول.
لكن التقدم المفاجئ لحركة طالبان وسيطرتها على كامل البلاد بما فيها العاصمة كابول خلال فترة قصيرة، أربكت حسابات كافة الأطراف الدولية، وباتت المفاوضات التركية الأمريكية بدون أي قيمة في ظل إصرار حركة طالبان على انسحاب كافة القوات الأجنبية بما فيها القوات التركية قبيل الموعد النهائي المحدد نهاية شهر آب/ أغسطس الجاري.
إلا أن هذه التطورات لم تكن كافية لإقناع أنقرة باتخاذ قرار سريع بسحب القوات التركية، وفُهم من تصريحات كبار المسؤولين الأتراك خلال الأيام الماضية أنها لا تزال تعول على إمكانية التوصل لاتفاق مع حركة طالبان بشكل مباشر لإبقاء القوات التركية وإدارة مطار كابول خلال المرحلة المقبلة، وهو ما فشل أمام إصرار حركة طالبان على انسحاب القوات التركية على غرار باقي قوات الناتو بحلول الموعد المقرر.
ومساء الأربعاء، أعلنت وزارة الدفاع التركية، بدء عملية إجلاء قواتها المسلحة من أفغانستان “بعد تقييم مختلف الاتصالات والوضع والظروف الراهنة”، وجاء في بيان الوزارة: “القوات المسلحة تعود إلى الوطن بفخر عقب إنجاز المهمة الموكلة إليها بنجاح”، مشيرة إلى أنه تم إجلاء 1129 مواطنا مدنيا بالطائرات العسكرية من أفغانستان.
وأوضح البيان: “القوات المسلحة التركية تمارس مهامها في أفغانستان منذ عام 2002 للمساهمة في إحلال السلام والاستقرار للشعب الأفغاني الذي تربطها به علاقات تاريخية وثقافية، في إطار اتفاقيات الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتفاقيات الثنائية، وبعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو أنهما سيغادران أفغانستان، أعربت تركيا عن نيتها حول إمكانية مواصلة مسؤوليتها في تشغيل مطار حامد كرزاي الدولي بأمان ووفق المعايير الدولية، كما فعلت لمدة 6 سنوات، في حالة توفرت شروط معينة، استنادا إلى عبارة (ستواصل تركيا الوقوف إلى جانب الشعب الأفغاني ما دام يريد ذلك) التي طالما عبرت عنها تركيا دائما. وفي هذا السياق، تم التدخل مع قوات دول أخرى لمعالجة الاضطراب بمطار حامد كرزاي وتم ضمان تنفيذ الأنشطة في المطار من خلال توفير الأمن فيه”.
والخميس، قال وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، إن بلاده تسعى إلى إتمام عملية إجلاء قواتها من أفغانستان في أقرب وقت، معتبراً أن “القوات التركية أدت مهامها في أفغانستان على أكمل وجه، وأن عمليات الإجلاء بدأت فعليا”، وتابع: “القوات المسلحة التركية تبذل قصارى جهدها لتنفيذ خطة الإجلاء دون عوائق، رغم الكثافة غير العادية في مطار كابول”.
هذا الانسحاب الذي بدأ بالفعل ويُتوقع أن ينتهي خلال الساعات أو الأيام القليلة المقبلة بما لا يتجاوز نهاية الشهر الجاري، جاء نتيجة الكثير من المتغيرات العسكرية والسياسية الداخلية والخارجية التي دفعت أنقرة لاتخاذ قرار الانسحاب على وجه السرعة، حتى وإن تمكنت لاحقاً من التوصل لاتفاق مع طالبان على عودة القوات التركية بصيغة جديدة أو الاكتفاء بإدارة المطار فنياً وتقنياً خلال المرحلة المقبلة.
ويعتبر فشل المفاوضات مع طالبان من أبرز الأسباب التي دفعت تركيا لسحب قواتها، حيث فشلت المفاوضات من خلال الإدارة الأمريكية بعد التطورات المتسارعة والمفاجئة التي أفضت إلى سيطرة طالبان على كابول، ولاحقاً فشل الاتصالات المباشرة بين تركيا والحركة للتوصل إلى اتفاق على بقاء القوات التركية، كما فشلت مساعي الحلفاء، حيث يعتقد أن باكستان وقطر تدخلتا لإقناع طالبان ببقاء القوات التركية، إلا أن كل هذه المساعي اصطدمت بموقف الحركة المتصلب والمُصر على انسحاب كافة قوات الناتو.
ويعتقد أن تعنّت طالبان على الرغم من انفتاحها الكبير على إقامة علاقات مع تركيا في المرحلة المقبلة، يأتي من باب أن القوات التركية وعلى الرغم من عدم مشاركتها في أي أعمال قتالية في أفغانستان على مدار 20 عاماً، إلا أنها كانت في إطار مهمة الناتو، ويرى مراقبون أن الحركة ستكون منفتحة بشكل كبير على التعاون مع تركيا ربما في إدارة مطار كابول تقنياً وفنياً، وربما أيضاً السماح بعودة قوات تركية لحماية المطار ولكن بصيغة جديدة.
والأربعاء، كانت وكالة رويترز قد نقلت عن مسؤولين تركيين قولهما إن حركة طالبان طلبت من تركيا مساعدة فنية لتشغيل مطار كابول بعد رحيل القوات الأجنبية، لكنها تصر على انسحاب القوات التركية بالكامل بحلول المهلة النهائية في أواخر الشهر الجاري. لكن تركيا يبدو أنها رفضت هذا الخيار نتيجة إصرارها على أن بقاء فرق فنية تركية لتشغيل المطار ستكون بحاجة لقوات توفر لها الحماية.
وفي سبب آخر لا يقل أهمية، ساهمت الضغوط الداخلية الهائلة التي تعرضت لها الحكومة التركية في اتخاذ هذا القرار، حيث أجمعت معظم أحزاب وزعامات المعارضة بتوجهاتها المختلفة على ضرورة سحب القوات في أسرع وقت، ووصل الأمر إلى حد تحميل الحكومة المسؤولية عن حياة أي جندي تركي يقتل أو يجرح في أفغانستان وهو ما وضع الحكومة في موقف حساس للغاية.
وما زاد من حساسية الموقف، عدم التوصل لاتفاق مع طالبان، ما يعني إمكانية تعرض القوات لأي نوع من الهجمات عقب انقضاء موعد مهلة الحركة نهاية الشهر الجاري، وتصاعد التهديدات بحصول “هجوم إرهابي كبير” على مطار كابول، حيث أصدرت استخبارات كثير من دول الناتو تحذيرات من معلومات محددة وخطيرة عن قرب وقوع هجوم إرهابي على المطار، وهو ما زاد من الخطر على القوات التركية.
وتشير معطيات في تركيا إلى أن التقديرات الداخلية وصلت حد الخشية من أن أي سقوط لضحايا في صفوف الجيش التركي بأفغانستان في ظل إصرار الحكومة على بقائها يمكن أن يؤدي لأزمة سياسة كبرى في البلاد وربما إسقاط الحكومة.
ووصل الاحتقان حول الملف الأفغاني في الداخل التركي، حدّ تهديد المستقبل السياسي للرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم في الانتخابات المقبلة، لاسيما مع الرفض الشعبي للتعامل مع حركة طالبان، واعتبار ذلك يتعارض مع “مبادئ العلمانية للجمهورية”، وإبقاء القوات التركية هناك إلى جانب أزمة اللاجئين الأكثر تأثيراً على الشارع التركي، وهو ما دفع أردوغان للقيام بحملة اتصالات واسعة مع زعماء العالم للتأكيد على أن تركيا لن تتحمل أعباء أزمة لاجئين جديدة في ظل استقبالها 5 مليون لاجئ من سوريا وغيرها من الدول.
ويرى مراقبون أن سحب القوات التركية لا يعني تخليا نهائيا من تركيا عن خططها في مطار كابول، لكن ذلك إن تم، سيكون بصيغة جديدة بعيدة عن المهمة السابقة للقوات التركية في إطار الناتو. وفي هذا الإطار أكّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن أنقرة لا تزال مهتمة بلعب دور في أفغانستان، وترك قنوات الاتصال مفتوحة مع قادة طالبان.
وقال أردوغان بالتزامن مع قرار الانسحاب: “من المهمّ أن تستقرّ أفغانستان.. ستواصل تركيا التحاور مع كافة الأطراف في أفغانستان في إطار تحقيق هذا الهدف”، كما قال المتحدّث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن في تغريدة على تويتر إن “تركيا ستواصل المساهمة بكل السبل في سلام الشعب الأفغاني وازدهاره”، كما لفت بيان وزارة الدفاع إلى أن “تركيا ستبقى مع الشعب الأفغاني طالما أراد ذلك”.