في الذكرى العشرين لكارثة 11 سبتمبر: مراجعات خاصة وعامة

في الذكرى العشرين لكارثة 11 سبتمبر: مراجعات خاصة وعامة

أسميها كارثة لأنها كانت كذلك، كارثة غير مسبوقة للولايات المتحدة، ثم تحولت إلى كارثة للشعبين الأفغاني والعراقي، وللعرب والمسلمين بشكل عام، ثم وصلت شظاياها القضية الفلسطينية، فدفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا من دمه وحقوقه، ثم تحولت إلى كارثة عالمية أثرت في الاقتصاد والسياسة والقانون الدولي، والبيئة والعنصرية والإسلاموفوبيا بعد أن أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن جملته الخطيرة: «من ليس معنا فهو مع الإرهابيين».
دعونا بعد عشرين سنة نسترجع بعض الملاحظات حول تلك الكوارث، ونحن الآن نرقب المشهد في أفغانستان، ونرى ما يجري في مطار كابول من تزاحم الهاربين من أمريكيين وأجانب وعملائهم في مشهد مهين للدولة العظمى، يذكرنا بالخروج من سايغون عام 1975.

ملاحظات شخصية

كنت عائدا من مؤتمر الأمم المتحدة لمناهضة العنصرية في مدينة ديربان جنوب افريقيا، ووصلت مطار كيندي بنيويورك الساعة السابعة والنصف صباحا يوم 11 سبتمبر وعندما وصلت البيت وأدرت التلفزيون لاحظت أن هناك بثا حيا يظهر فيه دخان من مركز التجارة العالمية، ويقول المذيع يبدو أن طائرة سياحية صغيرة اصطدمت بالبرج الأول. وبينما كنا نشاهد التغطية الحية، رأينا طائرة كبيرة تصدم البرج الثاني، وتظهر بعدها كتلة عظيمة من اللهب. تغير بعدها الخطاب وبدأت جميع المحطات تتحدث عن عمليات إرهابية واسعة، ثم أضيفت إلى الحديث قضية خطف طائرتين أخريين واحدة في طريقها لواشنطن وواحدة فوق ولاية بنسلفانيا. أصيب الناس بالذعر الشديد وانتشرت الإشاعات التي لا حدود لها، وأغلقت المحلات والمؤسسات والأسواق، ومبنى الأمم المتحدة، وقطعت الطرق وتوقفت المواصلات والاتصالات، وتقطعت السبل بمئات الألوف الذين ناموا في مواقف الحافلات ودور العجزة والأنفاق، أو عادوا مشيا إلى بيوتهم. بدأ الناس يبحثون عن أحبائهم وذويهم ومن بينهم أخت زوجتي التي كانت تعمل في الطابق الثامن من البرج الثاني، حيث مرت ساعات ثقيلة على العائلة، ولا أحد يعرف أهي حية أم ميتة، إلى أن وصلت البيت مشيا بعد ست ساعات.
في السادس من أكتوبر انتدبتني الأمم المتحدة للعمل في إسلام أباد لتغطية الأزمة الناتجة عن التهديدات بشن حرب على أفغانستان، وعندما وصلت المدينة كانت الحرب قد اشتعلت ونحن في الجو. تواصل عملنا من إسلام أباد لأكثر من شهرين. بعد هزيمة طالبان نقلتنا طائرة صغيرة إلى قاعدة باغرام، وكنا ستة موظفين فقط، واستقر بنا المقام في كابول. ورأيت بأم عيني الدمار والضحايا التي لم تدفن بعد، والحفر الهائلة التي تركها القصف السجادي لطائرات ب -52 العملاقة. تجربة مريرة لا تمّحي مع الأيام. كان الأفغان يشعرون بالغبطة لرحيل إمارة الملا عمر، لكنهم متوجسون من الاحتلال الأمريكي، الذي يذكرهم بالاحتلال السوفييتي.

دفع الشعبان الأفغاني والعراقي أعظم الأثمان وأفدحها ثمنا لكارثة 11 سبتمبر دون أن يكون لهما أي دخل في تلك الهجمة

في بداية يونيو 2003 عادت الأمم المتحدة وانتدبتي للذهاب إلى بغداد، بعد أن وقعت تحت الاحتلال الأمريكي. ومرة أخرى عشت التجربة المرة في العراق وشاهدت المآسي التي كان الشعب العراقي يعيشها نتيجة الفوضى، وانتشار عمليات النهب والتخريب، وكانت أخبار العمليات العسكرية ضد الاحتلال تصلنا يوميا. كنت شاهد عيان عندما أنشأ بول بريمر الحاكم الأمريكي المتعجرف، مجلس الحكم العراقي الموزع طائفيا. قلت لصديق يجلس بجانبي: هذه بداية حرب طائفية، نشهد الآن أولهالكن لا نعرف نهايتها. في التاسع عشر من أغسطس، تم تفجير مقر الأمم المتحدة في بغداد في أول عملية انتحارية، وكنت قد غادرته قبل ثلاث ساعات من التفجير. في «ذلك اليوم العصيب» كما عنونت كتابي، فقدت 22 من زملائي وأصدقائي الأعزاء، بمن فيهم زميلتي التي جاءت لتغطي عملي لمدة أسبوعين، لكنها لم تكمل يومها الأول. بعد ذلك قررت تغيير الاتجاه فودعت المنظمة الدولية، وسرت في مسالك أخرى أقل وعورة وأقرب إلى منازل القلب.

الكارثة بالنسبة للولايات المتحدة

لقد خلفت هجمات 11 سبتمبر 2779 قتيلا، بمن فيهم المسافرون على الرحلات الأربع، ومن قتل من عمال الإطفائية وأفراد الشرطة. من بينهم 246 أجنبيا ينتمون إلى نحو 90 جنسية، منهم عرب ومسلمون ويهود ومن أتباع الديانات الأخرى. فمن بين الضحايا خمسة إسرائيليين وثلاثة لبنانيين وأردنيان و66 بريطانيا و41 هنديا
و28 كوريا و24 يابانيا و 24 كنديا، و16 مكسيكيا و6 بنغاليين. وقد تردد في العالم العربي شائعة سخيفة تداولها الإعلام وبعض المحللين مفادها، أن نحو 3000 يهودي تغيبوا عن الدوام ذلك اليوم، بناء على تحذير وصلهم قبل يوم واحد. وهذا شيء من صنع الخيال. والحقيقة أن عدد اليهود الذين قتلوا يتراوح بين 270 حسب رواية البنتاغون و400 حسب رواية الجمعيات اليهودية. أما الكوارث الأكبر التي تلقتها الولايات المتحدة فجاءت نتيجة الحروب التي شنتها تحت مسمى «الحرب على الإرهاب». بدأتها في أفغانستان التي لم يكن لها أي ذنب إلا وجود بن لادن فيها. تورطت الدولة العظمى في أطول حروبها في التاريخ، وها نحن نشاهد خروجها المذل بعد عشرين سنة، ومقتل أكثر من خمسة آلاف أمريكي بين عسكري ومدني وخسارة أكثر من تريليون دولار. جاءت الولايات المتحدة لضرب تنظيم «القاعدة». فماذا نتج عن إسقاط طالبان وطرد القاعدة؟ لقد فرّخت القاعدة العديد من التنظيمات الأكثر راديكالية مثل «داعش» والنصرة والشباب وبوكو حرام والقاعدة في شبه الجزيرة والقاعدة في شمال أفريقيا والقاعدة في شبه القارة الهندية، وأنصار الشريعة وأجناد القدس وولاية سيناء وأنصار الإسلام في كردستان، وغيرها الكثير. وبعد ضرب البرجين في نيويورك ضربت لندن وباريس ومدريد وبالي وإسلام أباد وبومبي وبغداد والقاهرة وتونس والدار البيضاء وغيرها الكثير. هذا ما جنته أمريكا على نفسها وعلى شعوب العالم. أما الكارثة الثانية التي دفعت الولايات المتحدة ثمنها فهي الحرب على العراق. فكما قال توماس فريدمان في أحد مقالاته، إن الولايات المتحدة لم تشف غليلها من حربها في أفغانستان فذهبت إلى قلب العروبة، لأنها لا تستطيع أن توجه غضبها ضد حلفائها، فماذا جنت الولايات من حربها على العراق الذي لا دخل له لا من قريب ولا من بعيد. خرجت بشكل أساسي عام 2010 بعد أن دفعت ثمنا باهظا، ولم تعد تستحمل الخسائر. فقد نقلت إلى أمريكا 4431 جثة، و31994 جريحا وقتل 1487 متعاقدا و136 صحافيا و51 فنيا مرتبطا بالإعلام، وما لا يقل عن تريليوني دولار. وما زالت الولايات المتحدة تحاول أن تسحب ذيولها وبقية وحداتها من العراق ولا تكاد تضمن أي خروج بماء الوجه.
لقد دفع الشعبان الأفغاني والعراقي أعظم الأثمان وأفدحها ثمنا لكارثة 11 سبتمبر دون أن يكون لهما أي دخل في تلك الهجمة. لكن كلا الشعبين رفض أن يكون خروج الولايات المتحدة مثل دخولها. فلا أفغانستان ولا العراق سمح لليانكي أن يدخل متنزها ويخرج متبخترا فهذه البلاد عصية على الخضوع فلا هي بنما ولا غرانادا.

الكارثة على فلسطين

كان الكيان الصهيوني المستفيد الأكبر من هجمات 11 سبتمبر، وقد استغل رئيس وزراء الكيان إرييل شارون، الكارثة أسوأ استغلال، فربط بين ما سماه تعرض إسرائيل للتهديد «الإرهابي» وما تعرضت له الولايات المتحدة. ودعا العالم إلى محاربة الإرهاب، وكان يقصد طبعا النضال الفلسطيني ضد الاحتلال.
طار شارون للقاء بوش.. وأسفر ذلك اللقاء عن تبني بوش الرواية الإسرائيلية تماما: لا للعودة لحدود الرابع من يونيو، لا للانسحاب من بعض المستوطنات الرئيسية، لا لتقسيم القدس واعتبارها مدينة موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل، كما اتفق مع بوش على أن الفلسطينيين ليسوا شركاء للسلام. ولم يلبث شارون بعد أن عاد بهذه الغنائم من واشنطن، أن أطلق عملية عسكرية واسعة تحت اسم «عملية الدرع الواقي» حيث عاد واحتل مدن الضفة الغربية، بعد حصار طويل وقصف بالطيران واستخدم كل أنواع الأسلحة الثقيلة و30 ألف جندي وارتكب العديد من المجازر، أبرزها مجزرة مخيم جنين في إبريل 2002. لقد بلغت خسائر الفلسطينيين 4412 شهيدا. كما شرع شارون ببناء الجدار العازل وتوسيع الاستيطان، وتراجع عن كل ما نصت عليه اتفاقيات أوسلو الكارثية. ونتائج تلك الكارثة ما زالت ظاهرة للعيان حتى يومنا هذا.
مدفوعة بالرغبة في الانتقام، تصرفت الولايات المتحدة كالوحش الجريح الذي يريد أن يعتدى على كل من يلقاه في طريقه. لقد قتلت ملايين الأبرياء في أفغانستان والعراق واليمن والصومال وغيرها. جاء هذا النزيف الكبير على حساب رفاهية الشعب الأمريكي، وبنى البلاد التحتية التي تراجعت لتصبح أقرب إلى دول العالم الثالث، خاصة بعد الانهيار الكبير عام 2008. روسيا في هذه الفترة، وتحت قيادة بوتين، بدأت تستعيد عافيتها الاقتصادية بعد سنوات الخراب أيام بوريس يلتسين، والصين أعدت نفسها لانطلاقة عملاقة في ميادين الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا وعلوم الفضاء. وها نحن بعد عشرين سنة نرى نتيجة تلك السياسات الحمقاء في مطار كابول وقاعدة عين الأسد في العراق. لعل الرئيس بايدن يطوي صفحات من تلك الكوارث.

عبدالحميد صيام

القدس العربي