مصر لا تمانع في أن تتحرك حركة حماس بحرية داخليا وخارجية، لكن شريطة أن تراعي التزاماتها تجاه القاهرة بالدرجة الأولى وتجاه اتفاقاتها مع إسرائيل برعاية مصرية. وإلى الآن لا تستوعب حماس هذه المعادلة وتحاول أن تخرج عن سياقها ما يتطلب تذكيرا مصريا مستمرا بأن الأمر ليس مزحة ظرفية بل هو مسار على الحركة أن تلتزم به.
تبدو العلاقة بين القاهرة وحركة حماس منذ أن تمكنت الأخيرة من السيطرة على قطاع غزة مثل الزواج الكاثوليكي الذي يعرّفه المصريون بأنه رباط مقدس يستحيل أن ينحل بأي وضع وتحت أي ظرف اجتماعي، ولا يوجد شيء اسمه الطلاق النهائي.
وكلما حدث توتر بين الجانبين يسارع كل طرف نحو محاولة تطويقه، فمصر الرئة التي تتنفس منها الحركة بعد سد المنافذ الإسرائيلية أمامها، وممارسات الحركة غير المنضبطة يمكن أن تزيد السخونة في المنطقة بسبب تقاطعاتها الإقليمية.
في كل مرة تحاول فيها حماس الحصول على المزيد من دفقات الهواء وتعتقد في قدرتها على التنفس بحرية بعيدا عن مصر تعود مرة أخرى إليها فلا تستطيع الحياة دون هوائها، لأن عوامل الجغرافيا السياسية والأوضاع الأمنية فرضت معادلة يصعب مبارحتها، فكل المناورات التي تقوم بها تجاه إسرائيل أو لصالح أيّ من خصوم مصر الإقليميين يصعب أن يكتب لها النجاح إذا كانت تنطوي على أهداف تعمل ضدها.
مرّ الجانبان بالعديد من الاختبارات في هذا الفضاء ونجحا في القفز فوقها وأخفقا ولم تنقطع أواصر العلاقات بينهما، إذ توافرت ديناميكية سياسية غير مكتوبة جعلت من التمادي في العداء خصما لدودا لكليهما.
ورغم التباين الشاسع في الحسابات إلا أن كل طرف يضطر للجلوس مع الآخر في لحظة معينة ومهما تصاعدت العلامات الدالة على التباعد تظهر أخرى تفرض البحث عن النقاط المشتركة والذهاب إلى قاعدة التقارب، فتقبل القاهرة غض الطرف عن جنون الحركة أحيانا، وتضطر حماس إلى الرضوخ للإرادة المصرية غالبا.
ظهرت ملامح قوية من هذا النوع خلال الأيام الماضية تجلت في شكل مناوشات واضحة عندما قررت مصر إغلاق معبر رفح الذي يمثل الشريان الحيوي لحماس وسكان قطاع غزة، ردّا على خروج الحركة عن الضوابط المتفق عليها صراحة بشأن الحفاظ على التهدئة مع إسرائيل بما يعني تمهيد الأرض للعودة إلى سيناريو الحرب في غضون بضعة أشهر من انتهاء الحرب الأولى في مايو الماضي بعد تدخل ووساطة وضمانات مصرية أوقفت حربا حاول العديد من الأطراف استثمارها سياسيا.
أنذرت القاهرة الحركة وأوضحت لها مغبة الوصول إلى هذه المحطة في الوقت الراهن ولم تستجب حماس للتحذيرات بل كادت تنزلق إلى حرب جديدة، ولم تردع إلا عندما شاهدت معبر رفح يغلق من جانب مصر لحين إشعار آخر قبل أيام، ما يعني أنها مقبلة على مواجهة عسكرية مع إسرائيل وسياسية مع مصر في آن واحد إذا أرادت تنفيذ مآربها الخاصة بالجري وراء التصعيد، على خلاف الجولات السابقة التي كانت تنحاز فيها القاهرة إلى الشعب الفلسطيني وتعمل لأجل تخفيف معاناته.
تحرص حماس على ضبط شرودها السياسي كي لا يؤدي إلى صدام مع مصر، لأنها تعلم أن خسارتها لهذه الجبهة معناه خسارتها لأيّ جولة من جولاتها الممتدة والمتشعبة مع إسرائيل، حيث تدير القاهرة العلاقة مع تل أبيب بطريقة لا تخل بانحيازها للقضية الفلسطينية ولا تقودها إلى الدخول في مواجهة عسكرية معها، الأمر الذي تعلمه الحركة وتحاول استثماره بصورة تحقق لها مجموعة من الأهداف الحركية والإقليمية.
ما يضير القاهرة أن يتحول انفتاح حماس على إيران وحزب الله ضدها وتصبح غزة قاعدة خلفية لتنفيذ أجندات مناهضة لمصالحها
استوعبت القاهرة دروس سنوات سابقة أرخت فيها الحبل الأمني مع الحركة في أواخر حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك للدرجة التي نجحت حماس في تقوية روابطها مع الجناح المسلح لجماعة الإخوان المسلمين.
وشاركت في عملية اقتحام بعض السجون المصرية لإطلاق سراح محبوسين متطرفين عقب اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، ووجود قضية لا تزال منظورة أمام القضاء المصري عنوانها “التخابر مع حماس” متهم فيها عدد كبير من قيادات الإخوان بعضهم تم الحكم عليهم بسنوات متفاوتة ومنهم من ينتظر.
أصبحت مصر لا تأمن مكر الحركة ولا تثق في تقديراتها، وأدخلت تعديلات على تصوراتها معها أفضت إلى سد الكثير من الثغرات السياسية والأمنية، ثم تم التقارب معها وفقا لمعطيات تدير القاهرة علاقاتها بموجبها وتعتمد على الحذر الشديد مع حماس حتى لا تعتاد على التغريد بعيدا عن السرب المصري فتحدث خلافات قد تضر بإدارة الملف الفلسطيني الذي باتت فيه حماس ورقة مهمة يمكنها أن تمثل تهديدا للأمن القومي بشكل مباشر أو غير مباشر، عن قصد أو جهل.
كما أن الحركة تحاول قراءة المشهد الإقليمي بالشكل الذي يوفر لها بعض الحلفاء الذين تستطيع الاحتفاظ بهم كأوراق للمناورة مع مصر أو من خلالهم مع آخرين، وتتم عملية مساندتها من جانبهم في المواجهة مع إسرائيل في الحدود المسموح بها إقليميا ودوليا، فغالبية العلاقات التي تقوم بها حماس مرصودة من قوى مختلفة وهناك خطوط حمراء تتوقف عندها وخضراء يمكن تجاوزها، وكل خلل في الصيغة قد يرتد عليها.
من الممكن السماح ببعض ألاعيب حماس أو تصرفاتها البهلوانية طالما لا تمس الثوابت الرئيسية لتوازنات قوى كبيرة في المنطقة لأن الحركة جزء من منظومة يتم توظيفها من جهات متباينة وتقوية عودها جاء في سياقات غير منفصلة عن حسابات أميركية وإسرائيلية في مواجهة حركة فتح التي لعبت دورا مهما في النضال الوطني الفلسطيني خلال العقود الماضية.
يقول متابعون عن كثب للعلاقة بين مصر وحماس إن الأولى لا يضيرها انفتاح الحركة على كل من إيران وحزب الله وتركيا وقطر أو أيّ جهة تبدو على غير وفاق سياسي مع القاهرة، أو حتى تطوير العلاقات مع هذه الجهات بما يقود إلى الحصول على دعم سخي للحركة الإسلامية، لكن يضيرها كثيرا أن يتحول الانفتاح والدعم ضدها وتصبح غزة وكرا للمتطرفين والإرهابيين وقاعدة خلفية لتنفيذ أجندات مناهضة للمصالح المصرية.
تفرض هذه المعادلة الدقيقة على القاهرة أن تتحرك سريعا لتطويق أيّ أضرار متوقعة، وتقوم بوضع إجراءات قاسية على الحركة، وتعمل على تقليص المفاتيح التي تساعدها على التسلل وتصدير عناصرها بما يهدد الأمن القومي، فقوات حماس تقف على بعد بضع كيلومترات من الحدود الواصلة بين رفح مصر ورفح فلسطين وكل الممارسات الطائشة يمكن أن تكون لها ارتدادات على الروافد الأمنية في الأولى.
تفهم حماس هذه الرؤية جيدا وتحرص على فرملة اندفاعتها وتعي أن خسارة مصر تمثل خسارة كبيرة لنفوذها في غزة، ففي ظل الحصار المحكم من قبل إسرائيل ليس أمام الحركة سوى التعامل بإيجابية كبيرة مع القاهرة، والتلاعب بات يواجه بصرامة خاصة أن هامش الحركة التي تتمتع به في القطاع يضيق مع زيادة غضب سكانه، وعدم القدرة على تخفيف حدة الأزمات.
ناهيك عن أن القاهرة قدمت الكثير لأهالي غزة مع اندلاع الحرب الأخيرة وقللت من تداعياتها الأمنية والإنسانية فتضاعف رصيدها السياسي في القطاع بما خفض من مستوى التشكيك التقليدي الذي تبثه بعض قيادات الحركة في مثل هذه اللحظات.
نجحت القاهرة في ترسيم مجموعة من الضوابط مع حماس وقوى تقوم بدعمها بما جنب كل الأطراف الوصول إلى مرحلة الصدام المباشر، وتتهاوى المزيد من الجدران الفلسطينية الهشة، الأمر الذي يؤثر على تثبيت أركان الأمن المحدود في هذه البقعة القلقة جدا من العالم ويقود إلى فوران جديد لا تريده الولايات المتحدة حاليا، بالتالي فملامح الشرود التي تطفو على السطح من قبل حماس من حين إلى آخر لا تعني رغبة أكيدة في الصدام السياسي مع مصر.
العرب