يوافق الرابع والعشرون من ديسمبر القادم الذكرى السبعين لتأسيس المملكة الليبية المتحدة. الوضع اليوم لا يبدو مختلفا عما كان عليه عند فترة التأسيس إلا بالنفط والغاز والإسلام السياسي، وبهويات الأطراف الخارجية المتداخلة. وبأمر آخر مهم؛ فبقدر ما كان الآباء والأجداد ميالين إلى التكاتف والتضامن والوحدة تحت غطاء وطنية ليبية جارفة، يبدو الفاعلون الحاليون أميل إلى التشتت والانقسام وتقديم المصالح العقائدية والمناطقية والحزبية والفئوية والشخصية على المصلحة العامة.
الأسبوع الماضي أعلن في العاصمة الليبية طرابلس عن تشكيل جسم سياسي جديد تحت مسمى “إقليم طرابلس الغرب” على إثر اجتماع احتضنه مكتب دعم السياسات بديوان مجلس الوزراء، وشارك فيه ممثلون عن مدن طرابلس ومصراتة والزاوية والزنتان وزليتن وصبراتة وغريان وجادو وقصر الأخيار وورشفانة ومسلّاتة والشويرف، وهم يتوزعون بين عمداء بلديات وزعماء قبائل وأمراء حرب وقادة ميليشيات.
وأكد المجتمعون بعد نقاش مستفيض على أن الاجتماع يأتي استجابة لما أسموها ضرورات المرحلة التي تتطلب إقامة جسم سياسي واقتصادي واجتماعي يلبي احتياجات المرحلة في التفاوض باسم سكان الإقليم، معتبرين أن البعثة الأممية لم تكن حيادية في التعامل مع الملف الليبي وكانت انطلاقة حركتها من اتفاقات الصخيرات مبنية على هذا التقسيم الثلاثي وفق رؤية استعمارية. ودعا المجتمعون إلى التحشيد لاجتماع كبير لدراسة إحياء إقليم طرابلس الغرب الذي فرضت الضرورات عودته من جديد على أن تراعى السرعة في التأسيس والإنجاز، وإلى المجاهرة بحقوق الإقليم والمطالبة بحدوده، والمطالبة بحصر مصادر مداخيله السيادية والمحافظة عليها. كما طالبوا بالتعريف بحدود الإقليم واحتواء جميع أصحاب التوجهات والتكتلات، وبالدعوة إلى بناء إقليم طرابلس الغرب بناء صحيحاً من خلال إيجاد جسم تشريعي وتنفيذي وفق الدوائر المعتمدة في اختيار المؤتمر الوطني على أن توضع له أهدافه الواضحة، بالإضافة إلى التواصل مع القائمين على المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا لإقناعهم بالعدول عن مطالباتهم بإقامة إقليم رابع.
استنكر ناشطون عقد الاجتماع واعتبروه محاولة لتكريس نزعة التقسيم وتغذية نعرات الانفصال، متهمين جماعة الإخوان وحلفاءها باللعب من جديد على وتر الانقسام لتأمين مراكز نفوذها في غرب البلاد، وللإبقاء على تغلغلها في مفاصل الدول في ظل هزائم الإسلام السياسي في المنطقة، ولاسيما بعد مستجدات الأحداث في تونس.
محاولة للتقسيم
رد مراقبون محليون الإعلان إلى سعي الإخوان لاستباق الانتخابات بالعمل على تكريس سلطات معزولة في غرب البلاد أو الاتجاه من جديد نحو الدخول في مساومات تصب في إطار تضمين شروطهم ومصالحهم كأساس للاستمرار في الاعتراف بوحدة البلاد.
وجاء الإعلان عن تشكيل إقليم طرابلس في وقت تعمل فيه المفوضية الوطنية العليا للانتخابات ومجلس النواب وملتقى الحوار السياسي على التحضير للانتخابات الرئاسية والتشريعية في الرابع والعشرين من ديسمبر. وطلب 31 عضوا من ملتقى الحوار السياسي انعقاد جلسة طارئة، وتقدموا بلائحة إلى المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثتها للدعم في ليبيا يان كوبيتش عللوا فيها طلبهم بضرورة “معالجة الاختراقات الجسيمة” في تنفيذ خارطة الطريق المنبثقة عن الملتقى، إلى جانب التطورات الخطيرة التي تمسّ وحدة البلاد واستقرارها وسلمها الأهلي. كما أبرزوا أن المطالبة بعقد هذه الجلسة لم تصدر إلا لضمان تحقيق السلام العادل، والحفاظ على الاستقرار، والتمهيد الحقيقي لإجراء الانتخابات في آجالها المحددة لها للمرحلة التمهيدية.
لم يأت الإعلان عن قيام إقليم طرابلس من خارج سياقات الأحداث في البلاد التي تواجه صراعا على ثالوث السلطة والثروة والسلاح بعصبيات متعددة ليست الجهوية والمناطقية والقبلية إلا بعضا منها. أما التطلعات المعلنة لقيام النظام الفيدرالي فتخفي وراءها حسابات ومصالح الأحزاب واللوبيات وأمراء الحرب والأفراد ممن يرون أن تأثيرهم في محيطهم الإقليمي يتجاوز بكثير تأثيرهم على مستوى الوطن لذلك يحاولون خلق الإطار السياسي الذي يحقق لهم أهدافهم ضمن الإطار الاجتماعي المحقق.
الإخوان المسلمون يستبقون الانتخابات الليبية لتكريس نزعة التقسيم طالما عجزوا عن “امتلاك” ليبيا كلها
في يوليو 2020 أعلنت مجموعة من النشطاء في مدينة سبها تأسيس “مجلس إقليم فزان”، مؤكدين أن الكيان الجديد “تلتئم فيه مكونات فزان الوطنية من عرب وتبو وطوراق بعيدًا عن النعرات القبلية والجهوية”، آملين أن “يكون نواة لإعادة توحيد ليبيا التي لا تقبل التقسيم”. وتضمن البيان التأسيسي المبادئ الأساسية لمجلس إقليم فزان، ومنها التأكيد على وحدة ليبيا وسلامة أراضيها التي “هي قاعدة الهرم للكيان اللامركزي الحاكم فزان”، وضرورة “التحول إلى اللامركزية عبر إيجاد وتوطين كيان لامركزي حاكم لفزان تكون له صلاحيات واسعة وذمة مالية مستقلة”. وأوضح أن “الأهلية الوطنية لإقليم فزان تكمن في وجود تمثيل سياسي عادل له، وفقًا لقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة الصادر بتاريخ الحادي والعشرين من نوفمبر 1949 ووفقًا للمرجعية التاريخية المنبثقة يوم الاستقلال بتاريخ الرابع والعشرين من ديسمبر 1951، والمتمثلة في كون إقليم فزان جغرافيًّا له خصوصيته ويحق لأبنائه التمثيل الكامل – بواقع الثلث – في أي عملية سياسية، أو ترتيبات اقتصادية أو عسكرية أو أمنية، وإن الإخلال بذلك أو عدم تنفيذه يخل ويضعف مبادرات التسوية السياسية والعدالة الوطنية والمجتمعية”.
وشدد البيان على أن أبناء الإقليم “لهم الحق في أن يكونوا ضمن كيانه اللامركزي دون إقصاء أو تهميش لأحد”، وحرص الكيان الجديد على “إرساء دعائم المصالحة المجتمعية والتعايش السلمي بين جميع أبناء فزان ونبذ العنف وخطاب الكراهية، مرورًا إلى المصالحة الوطنية الشاملة”. وتابع “إن الوحدة الوطنية واللامركزية والحرية والمساواة والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة والفصل بين السلطات وحقوق المواطن وحقوق الطفل والمرأة والشباب واحترام التنوع الثقافي للمجتمع والعدالة الانتقالية وتكافؤ الفرص، هي ثوابت وطنية يكفلها كيان فزان اللامركزي الذي سيكون حريصًا على تضمينها والعمل بها في الوثيقة الدستورية للبلاد وكافة المواثيق ذات الصلة”، مشددا على أن “التوزيع العادل للثروة والمساواة في تولي المناصب السيادية في وزارات الدولة ومؤسساتها والإيفاد والتمثيل في الخارج واحترام دور الكفاءات ووجود المكونات الثقافية ومشاركة المرأة وذوي الاحتياجات الخاصة هي ركائز أساسية لتنمية وتطوير فزان وتعتبر ترسيخًا لمبادئ المشاركة المجتمعية على مستوى الوطن ككل”.
وفي سبتمبر 2020 أعلن تجمع من القوى الاجتماعية والسياسية والخبراء والأكاديميين في برقة عن تأسيس كيان سياسي واجتماعي تحت اسم “مجلس برقة الأعلى” يرتكز على عدة مبادئ وأهداف، وأكد البيان التأسيسي على أن ليبيا دولة مركبة مكونة من ثلاثة أقاليم هي برقة وطرابلس وفزان تربطها أواصر الأخوة، معتبرين أن “مجلس برقة الأعلى” هو ممثل برقة في أي حوار سياسي مع شركاء الوطن في طرابلس وفزان وعلى المستوى الإقليمي والدولي.
البداية كانت من برقة
أشار التجمع إلى أن من أهداف ومبادئ المجلس المطالبة بحقوق برقة السياسية والاقتصادية التي نص عليها دستور عام 1951 عند تأسيس الدولة الليبية، مشددا على أحقية سكان برقة اختيار شكل الدولة التي تلبي تطلعاتهم الوطنية والمحلية وتنظم علاقاتهم مع باقي أقاليم البلاد. وقال البيان إن “الدولة الليبية مرت بعد تأسيسها بعدة محطات سياسية، كان آخرها النظام المركزي الذي ساهم في تركز جميع مؤسسات الدولة في مدينة طرابلس، الأمر الذي ساعد مجموعة من الأفراد والميليشيات المسلحة الخارجة عن القانون في الاستحواذ على السلطة واحتكار مؤسسات الدولة لمصالحهم الخاصة، مما تسبب في إهدار الثروات الوطنية وانهيار الاقتصاد وتردي الأوضاع المعيشية للمواطن وإعاقة التنمية في البلاد”، معتبرا أن هذا الوضع من الفوضى والفساد الإداري والمالي قد ساهم في زيادة الإقصاء والتهميش لباقي مناطق وأقاليم البلاد، بالإضافة إلى الانفراد بالقرار السياسي وعقد اتفاقيات ومعاهدات خارج إطار التوافق الوطني، مما ساهم في تنامي حالة عدم الثقة.
وذكر البيان أن تأسيس مجلس برقة الأعلى جاء بسبب الظروف التي تمر بها البلاد، واستجابة لنداءات أبناء الوطن من مختلف الأقاليم لأخذ زمام المبادرة لتقديم رؤى تعالج التفاقم المتزايد للأزمة السياسية والاقتصادية، مؤكدا أن القوى الاجتماعية والسياسية في برقة، تنادت إدراكا منها لأهمية الدور الملقى على عاتقها خلال هذه المرحلة لوضع قواعد وركائز سليمة تؤسس لدولة تحفظ كرامة المواطن، وتلبي طموحاته نحو الحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية.
ومع ذلك تبقى هذه الكيانات الإقليمية المعلنة خارج سياقات الفعل السياسي الحقيقي، كما أنها لا تمتلك صلاحيات التأثير الاجتماعي الفعلي، ولاسيما في مواجهة الفعاليات القبلية الأساسية التي غالبا ما تؤكد رفضها لأية محاولة لتقسيم البلاد. فإقليم طرابلس المعلن قبل أيام لم يرحب به عمليا إلا بعض الناشطين في ذات الصعيد في برقة وطرابلس. تاريخيا كانت طرابلس في مقدمة القوى الداعية إلى الوحدة، وكانت برقة صدى لدعواتها، وكانت فزان الحصن الجنوبي الصلب سواء للدولة الاتحادية أو الدولة المركزية الموحدة.
بعد 70 عاما، تسعى الأمم المتحدة لاستعادة دورها في ليبيا، الدولة التي قامت على قرار من الجمعية العامة صادر في الحادي والعشرين من نوفمبر 1949، واقترحته وفود الهند والعراق وباكستان والولايات المتحدة، وهو ينص على أن ليبيا يجب أن تصبح مستقلة قبل الأول من يناير 1952. فصوت لصالح القرار 48 دولة مع معارضة إثيوبيا وغياب تسع دول منها فرنسا وخمس دول شيوعية. وقد نص القرار على أن يوضع للدولة الجديدة في أثناء ذلك دستور تقرره جمعية وطنية تضم ممثلين عن الأقاليم الثلاثة بالتشاور في ما بينها كهيئة واحدة، كما نص القرار على تعيين مفوض خاص من الأمم المتحدة للمساعدة في صياغة الدستور وإنشاء حكومة مستقلة. فكان الدستور الليبي الذي اعتمد بقرار من الجمعية الوطنية وصدر بتاريخ السابع من أكتوبر 1951 وفي الرابع والعشرين من ديسمبر 1951 أعلنت ليبيا استقلالها تحت اسم المملكة الليبية المتحدة بنظام ملكي دستوري وراثي. وقد تم إقرار الدستور من قبل الجمعية الوطنية الليبية بمدينة بنغازي في السابع من أكتوبر 1951.
وجاء قرار الأمم المتحدة آنذاك ليقطع الطريق أمام مشروع بيفن سفورزا وهو اتفاق سرّي تم في مارس 1949 بين وزير خارجية بريطانيا أرنست بيفن ووزير خارجية إيطاليا كارلو سفورزا على أن تحصل ليبيا على استقلالها بعد عشر سنوات، وأن توضع أقاليمها الثلاثة خلال هذه الفترة تحت وصاية دولية، فتتولى بريطانيا الوصاية على برقة وإيطاليا إدارة طرابلس فيما تتولى فرنسا إدارة فزان.
ناشطون استنكروا عقد هذا الاجتماع واعتبروه محاولة لتكريس نزعة التقسيم وتغذية الانفصال، متهمين جماعة الإخوان وحلفاءها باللعب من جديد على وتر الانقسام
وفي جلسة الأمم المتحدة نجح أحد أعضاء الوفد الليبي في كسب تأييد ممثل دولة هايتي ليكون بذلك صوته هو المرجح الذي أدى إلى سقوط مشروع بيفن وسفورزا، كانت تلك اللحظة منطلقا لبناء دولة من عدم. كانت طرابلس وبرقة وفزان أقاليم مستقلة عن بعضها سواء تحت الاحتلال العثماني أو الإيطالي، وفي نوفمبر 1918 تم الإعلان عن إنشاء الجمهورية الطرابلسية كأول جمهورية عربية لكنها لم تستمر طويلا، وفي العام 1934 اعتمدت إيطاليا “ليبيا” الاسم التاريخي القديم للبلاد (الذي استخدمه الإغريق لمناطق غرب وادي النيل وشمال أفريقيا) ليكون الاسم الرسمي لمستعمرتها في شمال أفريقيا، ولم تبرز معالم الدولة الليبية إلا في العام 1951 بعد استقلال الأقاليم الثلاثة بقرار من الأمم المتحدة وقيام نظام فيدرالي يحمل اسم المملكة الليبية المتحدة بقيادة أمير برقة إدريس السنوسي.
حين حصلت ليبيا على استقلالها عام 1951 كان عدد سكان المملكة قد تجاوز المليون نسمة غالبيتهم في ولاية طرابلس والبقية في ولايتي برقة وفزان. وفي عام 1954 أجري في ليبيا أول إحصاء رسمي للسكان وأعلنت نتائجه في عام 1955. وبحسب الإحصاء فإن عدد سكان إقليم طرابلس بلغ 1.090.83 نسمة وإقليم برقة 290.328 أما فزان فنحو 54.438 نسمة. عند الاستقلال لم يكن للمملكة أية موارد طبيعية قبل اكتشاف النفط، كما أنها افتقرت للعمالة المدربة في حين يعاني 72 في المئة من الذكور و95 في المئة من الإناث من الأمية، وبالرغم من كل التحديات الاقتصادية فقد كانت المملكة تعول على قطاعها الزراعي إذ كانت تأمل أن تضخ فيه الاستثمارات لزيادة المحاصيل الزراعية وتوسيع الرقعة الزراعية. وخلال السنة المالية 1951 – 1952 حصلت ليبيا على 4 ملايين دولار لدعم عجز الموازنة، فيما قدم لها برنامج النقطة الرابعة مليون دولار أميركي. وفي موازنة عام 1952 – 1953 قدرت الإيرادات بما لا يزيد عن 3.6 مليون جنيه إسترليني يقابلها حوالي 5 ملايين جنيه نفقات عامة وقدمت المملكة المتحدة 4.2 مليون دولار أميركي لدعم عجز الموازنة فيما قدم برنامج النقطة الرابعة الأميركي مبلغ مليون دولار أميركي لدعم التنمية في ليبيا.
في العام 1963 تم تعديل الدستور وإلغاء النظام الفيدرالي وبناء نظام مركزي باسم المملكة الليبية، واستمر الوضع على ما هو عليه إلى حين إطاحة نظام العقيد القذافي في العام 2011 حيث عاد الخطاب التقسيمي، وتم تكريسه من خلال التوافقات السياسية عبر اعتماد المحاصصة في المناصب التنفيذية والسيادية. فقد كان الإعلان عن قيام إقليم برقة في مارس 2012 منطلقا لجدل واسع حول مبدأ العودة بعيدا إلى الوراء. لكن الأغلبية الساحقة من الليبيين تقف مع تكريس الحكم المحلي بعدالة توزيع الثروة وبناء نظام مركزي قوي يحفظ سيادة الدولة ويدافع عن سيادتها.
أي نظام فيدرالي في ليبيا سيكون مشوها وسينتهي إلى الفشل، لأنه يعود ليتشكل على أساس مصالح فئوية وفردية، فيما الحل الحقيقي لليبيا هو الدولة الوطنية العادلة والقوية والمنفتحة على العالم والمستفيدة من مقدراتها ومن طاقات شعبها، والمنسجمة مع خصوصياتها الثقافية والحضارية والمتحكمة في موقعها ودورها.
العرب