استراتيجية الصين الاقتصادية في الشرق الأوسط، واحتدام المنافسة الجيوسياسية

استراتيجية الصين الاقتصادية في الشرق الأوسط، واحتدام المنافسة الجيوسياسية

الباحثة شذى خليل*

شغلت الصين مكانا ذا أهمية متزايدة في الشرق الأوسط في العقد الماضي، رغم أنها لا تزال وافدًا جديدًا نسبيًا إلى المنطقة وتتسم بالحذر الشديد في مقاربتها للتحديات السياسية والأمنية المحلية كون المنطقة تشهد تغييرات وتحديات سياسية واقتصادية كثيرة .
دول المنطقة اضطرت للتعامل معها بسبب تواجدها الاقتصادي المتزايد هناك. في الوقت الذي تظهر فيه تراجع لهيمنة الولايات المتحدة طويلة الأمد على المنطقة، صانعو السياسة الأوروبيون وغيرهم بشكل متزايد مستقبل البنية الأمنية في الشرق الأوسط – والدور المحتمل للصين داخل هذا الهيكل.
لكن استراتيجية الصين وأهدافها في الشرق الأوسط غير واضحة ، أو بالطرق التي يمكن أن تؤثر بها هذه العوامل على الاستقرار الإقليمي والديناميكيات السياسية على المدى المتوسط إلى الطويل. بالنظر إلى أن صعود الصين أدى إلى احتدام المنافسة الجيوسياسية في جوار أوروبا ، يجب على صانعي السياسة البدء في إدخال البلاد في تفكيرهم حول الشرق الأوسط، والتركيز على دور الصين المتطور في المنطقة، حيث أصبحت الصين أكبر شريك تجاري ومستثمر خارجي للعديد من البلدان في المنطقة.

الاتفاقيات : وقعت الصين اتفاقيات شراكة إستراتيجية توضح بالتفصيل استثمارات اقتصادية وتجارية واتفاقيات تعاون مهمة مع خمس جهات فاعلة رئيسية: الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل ومصر وإيران، بعبارات صعبة ، تسعى الصين إلى إبرام صفقات في مجال الطاقة واستثمارات وفرص تجارية موسعة مع شركاء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا – وهو الأمر الذي نوقش على نطاق واسع من قبل المراقبين الغربيين. أحد المجالات الرئيسية التي تتطلب اهتمامًا أكبر ، مع ذلك ، هي سعي الصين إلى إيجاد سوق للرنمينبي في الشرق الأوسط كجزء من مشروع تدويل أوسع للرنمينبي (RMB).
بالنسبة لدولة الامارات أصبحت دبي كمركز مقاصة رئيسي لليوان. بصفتها المركز المالي الرائد في الشرق الأوسط ، قامت بكين بمواءمة مصالحها مع الإمارة لتسريع تدويل الرنمينبي من خلال استخدامه كسلعة لتسوية تجارة النفط.
كما تسعى الصين إلى إقامة شراكات مماثلة مع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى ، بما في ذلك الكويت والمملكة العربية السعودية.
تركز شراكات الصين على العمل وتعطي الأولوية للبلدان الغنية بالموارد ومتوسطة الدخل في الخليج العربي ، اما الدول التي مزقتها الحرب. من غير المحتمل أن تولي بكين وقتًا أو اهتمامًا كبيرًا بالمناطق المتأثرة بالصراع، باستثناء ما هو ضروري لمنع تغيير النظام في البلدان التي تعاني من النزاعات ، وتقييد التدخل الغربي ، واحتواء الإرهاب، لا يزال لدى الصين شهية محدودة لتحدي البنية الأمنية التي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أو لعب دور مهم في السياسة الإقليمية.
الوجود الاقتصادي المتزايد للصين في بلدان منطقة الشرق الأوسط قد يؤثر بشكل كبير على المصالح الأوروبية، مما يدفع الأوروبيين الى مراقبة تأثير الصين المتزايد على الاستقرار الإقليمي والديناميكيات السياسية ، لا سيما فيما يتعلق بالقضايا الحساسة مثل تكنولوجيا المراقبة ومبيعات الأسلحة.
كثير من المصادر والدراسات العلمية تؤكد ان بكين لا تمتلك استراتيجية واضحة تجاه الشرق الأوسط عموماً، والدول العربية على وجه الخصوص.
وعلى الرغم من أن كتاب “الاستراتيجيا الصينية تجاه الدول العربية” يؤكد أيضاً عدم وضوح أهداف الصين تجاه الدول العربية وأدوات تحقيقها، غير ان الغموض يزداد بشأن مآلات (ونتائج) تحقيق أو عدم تحقيق تلك الأهداف مستقبلاً، إلا أنه يسرد أهدافا استراتيجية محتملة للصين في المنطقة العربية، منها في المجال السياسي: تعزيز مكانة الصين الدولية والمساهمة في تشكيل التعدّدية القطبية. ومنها في المجال الاقتصادي: استدامة الحصول على الطاقة، وحرية التجارة والحصول على الاستثمارات العربية. ومنها في المجال الثقافي: تقليص الفجوة المعرفية بين الجانبين، ونشر الثقافة واللغة الصينية. وفي المجال الأمني، يمكن أن تتضمّن تلك الاستراتيجية: التعاون الأمني، وتصدير السلاح إلى الدول العربية.
لكن هنا نصل الى نقطة مهمة هي تداخل المصالح العربية مع كل من إسرائيل وإيران والتي تعد جانباً مهماً في تحديد علاقات الصين بالعالم العربي

ذكرت بعض المصادر ان الصين راحت بعد هجمات “11 سبتمبر” 2001 في الولايات المتحدة، تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط أنها امتداد استراتيجي يتعلق بأمن المناطق الإسلامية في غرب الصين، إضافة إلى نظرتها التقليدية إلى المنطقة باعتبارها مصدراً للطاقة.
مما ساعد على سرعة التبادل التجاري وحجمه في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أن “ازدياد حاجة الصين إلى موارد الطاقة، المرتبطة أساساً بالنمو الاقتصادي الاستثنائي، هو الدافع الأساس لأن تكون للصين الشعبية استراتيجية شرق أوسطية جديدة ؛ فالانتقال من الاكتفاء الذاتي للصين من النفط في عام 1993 إلى اعتمادها على نفط الخارج، دفعها إلى دمج عامل النفط بمفهوم الأمن القومي”.
وإلى جانب عامليْ أمن الطاقة والتجارة والاستثمار، أن ثمّة عوامل رئيسية أخرى تؤثر في موقف الصين من المنطقة العربية وقضاياها، منها التنافس الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة الذي يشمل موقف كل منهما من قضايا المنطقة، مثل قضية دارفور والصراع العربي الإسرائيلي، وحرص الصين على ترك الولايات المتحدة تضمن أمن المنطقة. وكذلك، للعوامل الصينية الداخلية تأثير كبير على موقفها من المنطقة العربية. ومن الواضح أن الموقف الصيني تغيّر من مرحلة إلى أخرى، على أساس أوضاعها الداخلية، وأبرز مثال على ذلك انتقالها من المواقف المؤدلجة إلى البراغماتية
معنى براغماتية اسم مشتق من اللفظ اليوناني ومعناه العمل، وهي مذهب فلسفي – سياسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة؛ فالسياسي البراغماتي يدعّي دائماً بأنه يتصرف ويعمل من خلال النظر إلى النتائج العملية المثمرة التي قد يؤدي إليها قراره، وهو لا يتخذ قراره بوحي من فكرة مسبقة أو أيديولوجية سياسية محددة ، وإنما من خلال النتيجة المتوقعة للعمل، اما الأدلجة تعني التزامهم بمذهب أو مبدأ معين، في العمل .
مع اعتمادها سياسة الإصلاح والانفتاح على العالم في أواخر السبعينيات. وللعوامل الداخلية العربية تأثيرٌ لا يقل أهميةً هو الآخر، لأنها قادت، غير مرة، إلى اختلاف مصالح الدول العربية وتنوعها، بل تناقضها إلى حد الصراع، خصوصاً بعد حرب الخليج، عام 1991. وبالطبع، يمكن أن تشجع مصالح عربية متناسقة على بناء تعاون مثمر مع المنطقة العربية، أكثر مما هو الحال عند الخلاف والصراع.

“هاجس الهيمنة” واحداً من العوامل المؤثرة في موقف الصين من المنطقة العربية، أي الشك في سعي الصين إلى الهمينة السياسية استتباعاً لنهوضها الاقتصادي الهائل. لكن الكتاب يرى أنه “على الرغم من أن الصين أصبحت ابتداءً من الربع الأخير من القرن الماضي عملاقاً اقتصادياً، فإنها لا تزال قزماً سياسياً”. والمفارقة هنا أن نمو الصين الاقتصادي بدل أن يجعلها قوة سياسية فاعلة ومؤثرة، جعلها أكثر ضعفاً على المستوى السياسي، لأنه جعلها تلجأ إلى سياسة تجنّب الصراع مع القوى الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة.
الصين بين إيران والسعودية وإسرائيل
أما العلاقات المتداخلة والمصالح المتباينة بين دول الشرق الأوسط، العربية وغير العربية فهي العامل السادس في تحديد موقف الصين من المنطقة العربية وقضاياها. فإلى جانب تغيّر العلاقات والمصالح العربية البينية من التوافق إلى الصراع والاختلاف، فإن تداخل المصالح العربية مع كل من إسرائيل وإيران يعدّ جانباً مهماً في تحديد علاقات الصين بالعالم العربي. على صعيد العلاقة مع طهران، باتت الصين اليوم الشريك التجاري الأول للجمهورية الإيرانية، قبل الاتحاد الأوروبي، وتحصل الصين على 12% من وارداتها النفطية من إيران.، وكان التعاون الصيني الإيراني في المجال النووي مهماً للتقارب بين البلدين
من جانب اخر يشكّل عامل تعقيد في العلاقات الصينية السعودية التي شهدت، بالتوازي مع ذلك، تطوّراً واضحاً في السنوات الأخيرة، إذ يثير موقف الصين المنقذ لإيران في مواجهة العقوبات الغربية، حفيظة السعودية ودول خليجية أخرى، ويضعف مبدأ التوازن الذي تنتهجه الدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط بهدف الحفاظ على الأسواق.
بلغت الاستثمارات الصينية في التكنولوجيا الإسرائيلية في 2016 نحو 16.5 مليار دولار، ما مثّل زيادة بمقدار عشرة أضعاف مقارنة بعام 2015
وبشأن العلاقات الصينية الإسرائيلية، شهدت مرحلة ما بعد سياسة الإصلاح والانفتاح الصينية، تحسناً في العلاقات الصينية الإسرائيلية، ابتداءً من إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بينهما في 1992، إذ نظرت الصين إلى إسرائيل نافذة يمكن من خلالها التخفيف من الحظر الغربي للسلاح على الصين، المستمر منذ أحداث ساحة تيان آن مين عام 1989، من خلال الحصول على التقنيات العسكرية التي لا تستطيع الحصول عليها من الغرب. وقد أصبحت اسرائيل فعلياً المورد الثاني للأسلحة إلى الصين بعد روسيا، وارتفع التبادل التجاري بينهما بشكل مطّرد
كل هذه التطورات في العلاقة الصينية مع إسرائيل جعلت استقرار إسرائيل أولوية في السياسة الصينية الخارجية، وهو ما ينعكس بالضرورة على موقفها من تفاصيل الصراع العربي الإسرائيلي.
أن الأوضاع العربية ساهمت بشكل حاسم في التأثير على اتخاذ الصين قرارها تطبيع علاقاتها بإسرائيل، انطلاقاً من بدء عملية السلام العربية الإسرائيلية مع انعقاد مؤتمر مدريد عام 1991، ثم اندلاع حرب الخليج وضعف الجبهة العربية الموحدة ضد إسرائيل، وتراجع مكانة منظمة التحرير الفلسطينية على المستويين، الإقليمي والدولي، وتغيّر موازين القوى في الشرق الأوسط مع انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال القطبية الثنائية.
الصين ومستقبل العرب الاقتصادي
تأسس منتدى التعاون العربي الصيني في عام 2004، ما دفع تطور العلاقات التجارية والاقتصادية بين الطرفين على أساس التعاون في مجال التنمية، الرئيس الصيني شي جين بينغ، قال خلال الاجتماع الوزاري السادس للمنتدى عام 2014، أي بعد نحو عام من توليه السلطة، كان دليلاً على تطور اهتمام الصين بالمنطقة العربية، وطموحها للدخول السياسي إلى المنطقة من بوابة العلاقات التجارية”.
“ما يزيد أهمية المنطقة العربية عند صنّاع القرار الصيني هو أن سورية والعراق من أهم محطات طريق الحرير البرّي، وأن مصر والكويت والإمارات وقطر انضمت إلى البنك الآسيوي للاستثمار الذي تدعمه وتديره الصين”. وهما من متعلقات مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي تمثل مشروعاً اقتصادياً لإقامة بنى تحتية تشمل بناء سكك حديدية وطرق سريعة ومرافئ ومشروعات للطاقة، تغطّي أكثر من 65 بلداً تمتد من الصين إلى غرب آسيا وأوروبا، بقيمة تتجاوز 100 تريليون دولار أميركي. ولكن، مما خيّب آمال الصين التجاوب الحذر من الدول العربية مع المبادرة، نتيجة ربطها بهاجس الهيمنة السياسية الصينية من بوابة الاتفاقيات الاقتصادية، وخشية دولة عربية رئيسية، مثل مصر، من تأثير المشروع الصيني على قناة السويس ممرّا عالميا رئيسيا، على المدى البعيد.

ادركت الصين أنها لن تستطيع ضمان استمرار النمو والتنمية إلا من خلال اعتمادها رؤيةً تحظى بالقبول من القوى الدولية ، و حرصت الصين على الظهور بمظهر الفاعل السياسي في المنطقة، خصوصاً من جهة الانخراط في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ومحاولة دفع عجلتها. غير أن ارتباط أطراف الصراع بدور الولايات المتحدة في المنطقة، وحرصهم على علاقتهم معها؛ خصوصاً إسرائيل، ساهم في تعثر الجهود الصينية على هذا الصعيد.
للصين أهدافها وأدواتها ومجالاتها، إذ ترتكز على التنمية الشاملة، وبناء المكانة الدولية، وتحقيق المنفعة المشتركة من خلال المشروعات الضخمة التي أنشئت لهذا الهدف، مع توظيف الصين أدوات قوتها الناعمة الثقافية والتجارية، وملاحظة التهديدات المحيطة بوجودها في المنطقة على جميع المستويات.
أن الصين أدركت أنها لن تستطيع ضمان استمرار النمو والتنمية إلا من خلال اعتمادها رؤيةً تحظى بالقبول من القوى الدولية، وهي لذلك تحاول إزالة أي مفهوم جيوبوليتيكي توسّعي سلبي يمكن أن تتهم به. ولكن المؤكد أن علاقات الصين تدخل اليوم مرحلة جديدة مع القوى الدولية الكبرى، في مقدمتها الولايات المتحدة التي استشعرت خطر تضخم العملاق الصيني، وباتت تخشى طموحاته السياسية والعسكرية، فضلاً عن طموحاته الاقتصادية البيّنة، وهو ما يُترجم في مساعي إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى قيادة تحالف دولي يحاصر طموحات الصين، ما يفتح بالضرورة صفحةً جديدةً في بحث المستقبل الصيني، بعدما لم تنجح طروحاتها المعتمدة على التعاون وتجنب فرص الصدام في إقناع تلك القوى الكبرى بتركها تنمو كما تريد.

الوحدة الاقتصادية / مكتب شمال امريكا

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية

المصادر :

https://ecfr.eu/publication/china_great_game_middle_east/

https://www.alaraby.co.uk/opinion/

https://www.mei.edu/publications/chinas-pursuit-strategic-fulcrum-middle-east