أعاد الهروب الأمريكي غير المفاجئ من أفغانستان من جديد «العقدة الفيتنامية» التي هيمنت على السياسة الأمريكية عقودا طويلة، بعد انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام ومن حرب فيتنام، التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من البشر، وكلفت مبالغ طائلة وخلّفت دمارا هائلا. كان دخول الحرب لدحر الشيوعيين وانتهت الحرب بتسليم فيتنام لهم. وهكذا حدث في أفغانستان، فبعد إقصاء حركة طالبان عن السلطة، وبعد عشرين عاما من الاحتلال والحرب والوجود العسكري لأمريكا وحلفاء أمريكا، عادت الحركة إلى السلطة بموافقة أمريكية، وتركت الولايات المتحدة الغالبية الساحقة من حلفائها الأفغان إلى بئس المصير.
في مطلع الألفية الثالثة، وبعد اجتياح أفغانستان وغزو العراق، أجمع المحللون على أن الولايات المتحدة عادت إلى سياسة التدخل العسكري الواسع، وتخلّصت من «عقدة فيتنام» التي أصيبت بها بعد هزيمتها في حرب ضروس، بمشاركة أكثر من نصف مليون جندي أمريكي، انتهت بهزيمة مذلّة، أدّت إلى إعادة تقييم في المؤسسة الأمريكية، وإلى اتباع سياسة أكثر انغلاقا، وأكثر اهتماما بالشأن الداخلي، وإلى امتناع عن مغامرات عسكرية كبيرة. إلى أن جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، فجاء رد الفعل عليها بمثابة انقلاب على دروس فيتنام، وكأنّه كسر حاد في موقف الامتناع عن الدخول في حروب لتحقيق أغراض أمنية وسياسية، لكن في الحقيقة، لم يحدث هذا الانقلاب فجأة ودفعة واحدة، بل كانت له مقدمات وخلفيات وازنة.
على العرب أن يلائموا أنفسهم للمتغيّرات، وأن يبدأوا بأنفسهم وبعلاقاتهم البينية والجماعية، وأن يفتحوا جسور التعاون مع قوى إقليمية
بعد تفجيرات بناية التوأم ومقتل آلاف الأمريكيين، كان أمام القيادة الأمريكية خيارات عديدة للرد، لكن الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، قرروا بدعم وتشجيع من مجموعة المحافظين الجدد، الذين احتلوا مناصب مفصلية في الإدارة الأمريكية، اختيار الرد العنيف المدمّر، وشنّوا الحرب على أفغانستان. كان ذلك اختيارا وليس اضطرارا، فدولة بقوّة الولايات المتحدة لديها دائما خيارات متعدّدة لتحقيق أهدافها، لكن القرار بالحرب لم يقفز بلا خلفية أو مقدّمات، فقد نظّر المحافظون الجدد، قبل تفجيرات التوأم بكثير، للتخلّص من «عقدة فيتنام» بادّعاء أنّ الانسحاب المهين من فيتنام، كان نتيجة لفشل ووهن وتردّد قيادة أمريكية ضعيفة، لا تعرف كيف تدير الحرب ولا كيف تصنع السلام. ورفضوا دروس فيتنام واعتبروها تقويضا لدور ومكانة ورسالة الولايات المتحدة، وأكّدوا في المقابل على «دروس ميونخ» بأن التهاون مع المعتدين واسترضاءهم، وعدم الرد على ما يفعلون يقود فقط إلى مزيد من العدوان.
لقد جرى تفسير النصر الفيتنامي ارتكازا إلى الدور الحاسم للاتحاد السوفييتي والصين الشيوعية في دعم الشيوعيين الذين حاربوا الجيش الأمريكي وحلفاءه في جنوب فيتنام. وبما أن الشيوعية اختفت في روسيا والصين أصبحت رأسمالية، لم يبق في العالم سوى قوّة واحدة هي الولايات المتحدة، وهي برأيهم مؤهّلة لقيادة العالم وعليها أن تنشر «النموذج الأمريكي الناجح والأخلاقي» في أرجاء المعمورة كافة. وجد المحافظون الجدد في أحداث 11 سبتمبر فرصة سانحة لتطبيق تنظيراتهم الخلاصية، ودعوا إلى القضاء على أنظمة الاستبداد، واستبدالها بأنظمة جديدة تعتمد «الديمقراطية» والاقتصاد الرأسمالي المحرر من القيود، وحاولوا الترويج لفكرة أن العمليات الإرهابية ضد أهداف أمريكية مردّها أن الشعوب حاقدة على الولايات المتحدة بسبب غضبها على الحكّام المستبدّين والفاسدين الموالين لها، والحل هو حكّام ديمقراطيون «محترمون» موالون لها، لا يثيرون كل هذا الاحتقان والسخط عليها، ما سيحد من دوافع الانتقام من الولايات المتحدة. اعتقد المحافظون الجدد، الذين سادوا ومادوا بعد تفجيرات سبتمبر، أن خطّهم هو الخير، وأن الولايات المتحدة هي الخير وكل من يعاديها يمثل الشر، ودعا بوش الجميع إلى اتخاذ قرار «أنتم معنا أم ضدنا». وانطلاقا من هذه النظرة التبسيطية، التي لم تخل من أبعاد دينية خلاصية، خرجت الدعوات لحل المشاكل بالقوّة كخيار أوّل، دفاعا عن «الخير» وحتى لا يتمادى «المعتدون».
لا يمكن فهم الانسحاب أو الهروب الأمريكي من أفغانستان، من دون الأخذ بعين الاعتبار انحسار قوّة وتأثير المحافظين الجدد وفكرهم ومفهومهم لمعنى ومصدر الخير، وواجب السعي إليه حتى باستعمال العنف والقوّة. فالإدارة الأمريكية الحالية والرئيس بايدن هما أبعد ما يكون عن هذه الجماعة، وحتى دونالد ترامب ليس من اتباعهم وهو عمليا، الذي رسم بالاتفاق مع حركة طالبان خريطة الطريق لإنهاء الوجود الأمريكي في أفغانستان. لكن السياق الأهم لمشهد الخروج من أفغانستان، هو الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط، الذي له تأثيرات بعيدة المدى في المنطقة وفي أنظمتها السياسية وأحوالها الأمنية وصيروراتها الاقتصادية. ولهذا الانسحاب أسبابه وحيثياته، فهو أولا يأتي تبعا لوصول الولايات المتحدة إلى اكتفاء ذاتي، وأكثر في مجال الطاقة، وهي لم تعد بحاجة مباشرة لنفط الشرق الأوسط، وثانيا هو نتيجة للاستنزاف في «حروب لا تنتهي» وثالثا فشل مشاريع «التجارب على المجتمعات والبشر» مثل الإصلاح الديمقراطي على الطريقة الأمريكية، وهندسة «الأمة» وبناء «الدولة» وغيرها، ورابعا نقل مركز الثقل في السياسية الأمريكية لمواجهة نمو الصين كمنافس كوني، وخامسا هناك الأعباء الاقتصادية الضخمة للتدخل الأمريكي في المنطقة بأشكاله كافة، وسادسا، وربما يبدو الأمر غريبا، وهو أن واشنطن فهمت أخيرا واقتنعت أن عهد مواجهة المد الشيوعي قد انتهى.
هل عادت عقدة فيتنام وهل ستتوقّف الولايات المتحدة عن التدخل العسكري وعن العبث بمصائر الدول والأمم؟ وهل ستخلق الحالة الأفغانية والهروب المهين عقدة جديدة؟ هناك من يسهب في التحليل بأن أفغانستان مقبرة للغزاة، ودخلها البريطانيون والروس والأمريكيون وخرجوا منها مهزومين. ويذهب بعضهم إلى القول إن سياسة التدخل العسكري صحيحة بحد ذاتها، لكنّها صعبة التطبيق في الحالة الأفغانية. وكأنّ الأمريكيين لا يعرفون أفغانستان. لا شكّ في أن سكرة القوة أعمت بصيرتهم عن الواقع الأفغاني وأوهمتهم بأنهم سينجحون حيث فشل الآخرون.
هذا يذكّرني بالنقد اللاذع، الذي وجه، في حينه، إلى فيلم «الفرسان» الذي تدور أحداثه في أفغانستان، بجبالها وملاعبها وناسها والباحثين عن البطولة فيها (ذا هورسمين ـ بطولة عمر الشريف، إخراج جون فرانكنهايمر، 1971). لقد اجمع النقّاد على أن الإخراج رائع والتصوير مذهل والتمثيل، خاصة عمر الشريف، عالي المستوى، وأن الفيلم متعة بصرية كما هي السينما بأسمى تجلياتها، لكنّهم، وانطلاقا من أسس النقد الفني الأرسطوطالي، أجمعوا على تبخيسه لأن هناك لا واقعية ومبالغة كبيرة غير مقنعة، حسب رأيهم، في تصوير الواقع الأفغاني، على اعتبار أنه من المستبعد، بل من المستحيل (بمنظار أمريكي طبعا) أن يكون وجود لواقع بهذه القسوة والصعوبة، وينتج هذا التوق للبطولة وتحقيق الرجولة. ونرى اليوم أن العقلية نفسها التي انتقدت «عدم واقعية» الفيلم هي التي حكمت نظرة الغرب إلى أفغانستان، وثبت أن الفيلم، الذي لم يأخذ حقّه، كان أكثر واقعية منها.
في كل الأحوال للانسحاب الأمريكي أسبابه الأفغانية، لكن الأسباب العامة والخارجية لا تقل أهمية، ما يعني أننا بصدد سياق عام. ويأتي الهروب من أفغانستان في ظل ثلاثة تحوّلات كبرى في السياسة الأمريكية: الانسحاب من الشرق الأوسط، والتفرّغ للمنافسة مع الصين، وعودة «عقدة فيتنام» بقوّة. أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن تستنتج الدول العربية أن الولايات المتحدة قد هجرتها، أو هي في الطريق إلى هجرتها وترتمي في أحضان إسرائيل. على الدول العربية أن تقرأ التحولات السياسية الإقليمية والعالمية بواقعية وعقلانية، ولا يمكنها مواصلة العمل بقوّة الاستمرار، لأن هذا يعني التراجع إلى أحوال كارثية. على العرب أن يلائموا أنفسهم للمتغيّرات، وأن يبدأوا بأنفسهم وبعلاقاتهم البينية والجماعية، وأن يفتحوا جسور التعاون مع قوى إقليمية مثل، إيران وتركيا ودول كبرى مثل الصين وروسيا والهند ودول الاتحاد الأوروبي، وأن يعيدوا العلاقة مع الولايات المتحدة إلى حجمها الطبيعي، بلا مبالغة وبلا مقاطعة. أمّا الذين يسارعون إلى عناق الدب الإسرائيلي، فعليهم أن يعلموا أن فرو الدب الناعم والدافئ عند العناق، تقابله مخالب حادّة وجارحة عن أي محاولة للإفلات من هذا العناق.
جمال زحالقه
القدس العربي