يطرح اجتماع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بوزير الأمن الإسرائيلي بني غانتس، ومنسق شؤون الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية غسان عليان، يوم الأحد الماضي، وما أعلن بعد اللقاء من حلول لملفات معيشية عدة للفلسطينيين، سؤالاً حول إن كانت العملية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد انتهت تماماً، وباتت تقتصر على الحلول الخدماتية والاقتصادية، من دون أن يشهد عهد عباس أي مفاوضات سياسية حقيقية، وأن السلام الاقتصادي، الذي تم رفضه من باب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، جاء هذه المرة من نافذة الرئيس جو بايدن.
ويرى محللون سياسيون، تحدثوا مع “العربي الجديد”، أن القيادة الفلسطينية قبلت، على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية، أن تمارس عملها كسلطة حكم ذاتي، أو بلدية كبرى، تدير شؤون الفلسطينيين اليومية، وأن كل ما تستطيع فعله، إذا ما كانت الرياح الأميركية والعربية مواتية، هو العمل على حلول اقتصادية وإنسانية، مع بقاء الأزمة السياسية الحقيقية، وهي الاحتلال وملفات الحل النهائي المؤجلة منذ اتفاق أوسلو 1993، خارج أي طاولة بحث أو نقاش، إلى أجل غير معلوم.
يعكس امتناع وكالة “وفا” عن نشر بيان اشتية بشأن إنهاء الاحتلال، حالة التفرد بالقرار لدى مثلث القيادة
وشكّل اجتماع عباس بغانتس وعليان، أهم لقاء سياسي على المستوى الإسرائيلي والفلسطيني منذ نحو 10 سنوات، وجاء بضغط من الإدارة الأميركية التي أرادت أن تقدم للرئيس الفلسطيني بادرة حسن نية، دعماً لموقفه خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في مايو/أيار الماضي، حيث احتوى عباس التصعيد في الضفة الغربية، بعد مخاوف من اختلال الميزان السياسي لصالح حركة “حماس”، ما جعل بايدن يتصل بعباس هاتفياً ويؤكد، في مؤتمر صحافي علني، شرعيته كرئيس للسلطة الفلسطينية.
وفي يوليو/تموز الماضي، سلّمت القيادة الفلسطينية قائمة “إجراءات بناء الثقة” للمبعوث الأميركي هادي عمرو، الذي يشغل منصب نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي. ورغم أن المسؤولين الفلسطينيين لم يعلنوا ما هي هذه البنود، التي سرّبوا غالبيتها للإعلام الإسرائيلي، لكن مسؤولاً فلسطينياً أكد، في ذلك الحين لـ”العربي الجديد”، أن القيادة الفلسطينية أعدت قائمة من أكثر من 30 نقطة، بعنوان “إجراءات بناء الثقة”، ضمّت بنوداً أمنية واقتصادية وسياسة، وسلمتها للمبعوث الأميركي.
تقارير عربية
عودة التنسيق الأمني مع الاحتلال: سلفة فلسطينية لبايدن بلا ثمن
وبات واضحاً من إعلانات عضو اللجنة المركزية لحركة “فتح” ورئيس الشؤون المدنية الفلسطينية، حسين الشيخ، في اليومين الماضيين، والذي يشكل أحد أضلاع المطبخ السياسي الفلسطيني الحالي، ما هي بعض هذه البنود، التي تمت الموافقة عليها ونشرها الإعلام الإسرائيلي. وأبرزها: أولاً تسوية أوضاع ثلاثة آلاف فلسطيني لا يملكون بطاقة هوية داخل الأراضي الفلسطينية، في الوقت الذي أعلن فيه الشيخ عن خمسة آلاف، وهؤلاء يعيشون تحت خطر الترحيل القسري من وطنهم، فيما لو تم الإمساك بهم على أحد الحواجز الإسرائيلية لعدم امتلاكهم بطاقة هوية يصدرها الاحتلال. وثانياً: خدمة الجيل الرابع (4G) للإنترنت والاتصالات، حسب إعلان الشيخ. وثالثاً: مصادقة وزير الدفاع الإسرائيلي على قرض نصف مليار شيكل (الدولار يساوي 3.2 شيكل) للسلطة الفلسطينية، تبدأ السلطة بإعادته في يونيو/حزيران 2022، وهي نقطة أعلنها الإعلام الإسرائيلي وتجاهلها الشيخ في تغريداته المتتالية حول إنجازات القيادة في اليومين الماضيين. ولعله من الصعب شرح لماذا يقوم الاحتلال بإقراض شعب يقوم بقتله وسرقة أرضه يومياً، إلا إذا كان الهدف من القرض هو حماية السلطة الفلسطينية من الانهيار وليس شعبها.
وتندرج جميع الإنجازات المذكورة تحت بند تحسين الحياة المعيشية للفلسطينيين، أو كما يُطلق عليه “السلام الاقتصادي”، مع تنويه أن خدمة الجيل الرابع (4G) ستعود مكاسبها إلى شركة الاتصالات الفلسطينية بشكل أساسي، أي أن المواطن الفلسطيني، الذي يعاني من سلطة تحجب الصفحات الإخبارية المعارضة لها بقرار محكمة، وينشط لديها جيش إلكتروني لتقديم بلاغات لإغلاق صفحات المؤثرين على “السوشال ميديا”، لن يناله الكثير من الفائدة.
باسم الزبيدي: يبدو أن صناع القرار يفكرون أن هذه الخطوات ستزيد من شعبية السلطة
ورغم أن القيادة الفلسطينية لا تحب أن تستخدم مصطلح “السلام الاقتصادي”، مفضلة استخدام “إنجازات” أو “انتصارات سياسية”، إلا أن هذه الملفات تبقى جزءاً يسيراً من الأزمات الناتجة عن الأزمة الحقيقية، وهي الاحتلال، وعدم وجود دولة فلسطينية ذات حدود وسيادة وقابلة للحياة لا تقطع أوصالها المستوطنات، وهذه أبرز ملفات الحل النهائي لأي عملية سياسية حقيقية.
ولعل امتناع وكالة الأنباء الرسمية “وفا” عن نشر بيان لرئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتية، مساء أول من أمس الثلاثاء، والذي قال فيه: “ما نريده إنهاء الاحتلال وليس تحسين الظروف المعيشية تحته”، يعكس حالة التفرد بالقرار لدى مثلث القيادة، عباس والشيخ ورئيس جهاز المخابرات ماجد فرج، ورفض هذه القرارات من قبل رئيس الحكومة، وهو أحد أعضاء اللجنة المركزية لحركة “فتح” التي لم تتم استشارتها في الاجتماع مع وزير الأمن الإسرائيلي. كما لم تتم استشارة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فيما تأتي قرارات القيادة الفلسطينية ضد قرارات المجلسين الوطني والمركزي والغالبية العظمى من فصائل منظمة التحرير، باستثناء الصغيرة التي تدور في فلك حركة “فتح”. ويبدو التناقض واضحاً بين بيان اشتية حول “إنهاء الاحتلال وليس تحسين الظروف المعيشية”، وبين الشيخ الذي نشر، أول من أمس، تغريدة على حسابه في موقع “تويتر” عبارة عن صورة لمئات الفلسطينيين الذين يتدافعون على بوابة وزارة الشؤون المدنية. وعلق على الصورة: “توافد كبير من طلاب لمّ شمل العائلات لتحديث بياناتهم لدى مكتب الشؤون المدنية. أيهما أصدق؟ هذا الشعب المتمسك بحقه والمقدّر للإنجاز مهما صغر أم بائعو الشعارات والكلام”.
ويرى المحاضر في جامعة بيرزيت باسم الزبيدي، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “النخبة السياسية الاقتصادية الأمنية الفلسطينية تقوم عبر هذه الخطوات بشراء مزيد من الوقت، لأن لديها مشكلة حقيقية بالاستمرار، وشرعيتها أصبحت في مهب الريح، حيث لا أفق سياسيا، وهناك شارع محتقن ومحبط، وانقسام سياسي يترسخ ولا أفق لإنهائه”. ويقول الزبيدي إن “وضع السلطة هو الأسوأ في الشارع الفلسطيني منذ 1994 وحتى الآن. ويبدو أن صناع القرار، الفلسطيني والإسرائيلي والأميركي، يفكرون أن هذه الخطوات سوف تزيد من شعبية السلطة، ويمكن أن ينضم لهم قطاعات محددة من الشارع الفلسطيني في هذا التفكير حالياً. لكن كل هذا سيكون إلى وقت محدود، لأن الفلسطينيين يعانون من سرطان اسمه الاحتلال، وهذه الخطوات عبارة عن مسكّن ألم من النوع البسيط جداً، مثل الأسبرين”.
يشار إلى أنه كان يجب التوصل إلى حل سياسي لملفات الحل النهائي عبر المفاوضات منذ عام 2000، أي بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، المحددة بخمس سنوات حسب اتفاق أوسلو، حيث لم يشهد الفلسطينيون أي مفاوضات حقيقية بمخرجات علنية واضحة إلا في عام 1997، أي ما عرف بـ”بروتوكول الخليل”، أو “إعادة الانتشار”، الذي قسّم المدينة إلى جزءين، “H1″ خاضع للسيطرة الفلسطينية، و”H2” للسيطرة الإسرائيلية. لكن هذا الاتفاق لا يختلف عن جوهر “أوسلو”، إذ إنه اتفاق أمني بهامش سياسي وليس العكس. ورغم ذلك لم تنجح، خلال العقدين الماضيين، أي عملية تفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وحتى التفاؤل بلقاءات عباس ورئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود أولمرت في 2008 سرعان ما تبدد من دون أي نتائج حقيقية. كما انهارت مبادرة وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري، في ربيع 2014، بعد امتناع إسرائيل عن تجميد الاستيطان وإطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين من قبل “أوسلو”، لتبقى الأمور تراوح مكانها، فيما تهدف رياح “السلام الاقتصادي” والخدمات المعيشية إلى إنعاش السلطة حتى لا تنهار.
غسان الخطيب: هناك حاجة لدى جميع الأطراف للقيام بخطوات لتجنب الانهيار والانفجار
ويرى المحلل السياسي غسان الخطيب، في حديثه لـ”العربي الجديد”، أنه “لا توجد آفاق لمفاوضات سياسية حالياً، ولكن هناك قضايا معيشية ملحّة، وهناك حاجة لدى جميع الأطراف، الأميركية والإسرائيلية والفلسطينية، بضرورة القيام بخطوات لتجنب الانهيار والانفجار. وربما هذا الأمر هو ما أقنع الطرفين باللقاء، وذلك نتيجة جهد أميركي للمساهمة في منع تدهور الأمور أكثر بالنسبة للسلطة الفلسطينية”. ويوضح الخطيب أن “ملفات مفاوضات الحل النهائي، مثل حدود الدولة الفلسطينية والسيادة والاستيطان والقدس واللاجئين وغيرها، لم تعد موجودة على الطاولة منذ سنوات، وذلك يعود للتغيرات البنيوية في تركيبة الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة، والسياسة الأميركية، تحديداً في عهد ترامب وقراراته الداعمة لإسرائيل، وصولاً إلى الوضع الفلسطيني، حيث الانقسام وتآكل الشرعية السياسية”. ويشير إلى أن “كل هذه التغييرات تحول حالياً دون وجود مفاوضات سياسية حقيقية. وفي ظل انعدام الآفاق، تذهب جميع الأطراف نحو القاسم المشترك الأدنى المتعلق بحل المتطلبات الحياتية الفلسطينية كنقطة يلتقي عندها الجميع”.
ويرى مدير مؤسسة “مواطن” الكاتب جورج جقمان، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن السلطة الفلسطينية عادت عملياً، ولو بصعوبة، لحل “السلام الاقتصادي”. ويقول إن “الوضع الراهن يقول إن السلطة الفلسطينية قبلت، بصورة ضمنية، أن تستمر كحكم ذاتي محدود الصلاحيات، أي كبلدية كبرى لإدارة شؤون السكان، وانتهى أي حديث من القيادة الفلسطينية حول حل السلطة وتسليم المفاتيح كما كنا نسمع في السنوات القليلة الماضية”.
العربي الجديد