ترك شفيق الغبرا حياته غير الآمنة ورحل. هذا نبأ حزين، وعلى الرغم من توقعه بعد عام ونصف العام من معاناته مع المرض العُضال، فإنه فاجأنا كعادته. لم نعتد من شفيق أن يستسلم بسهولة، وهو لم يفعل، فعلى امتداد فترة مرضه كلها كان يُشعرنا أنه معنا في كل يوم، ثابر على كتابة مقالاته الأسبوعية بين جولة علاج ونوبة ألم، واستفاقة منهما. وإذا عجز عن الكتابة بيده، استخدم لوحة المفاتيح، كان يستعين بزوجته الصابرة، تغريد القدسي، فيُملي عليها ما يريد، ويتواصل من خلالها مع أصدقائه ورفاقه. ولعله أنجز في عزلته أكثر مما كان لينجزه في المدة ذاتها من حياته المعتادة، فقد كان توّاقًا لأن يكمل مهمته ومسيرته.
قبل بضعة أيام، علمت أن العد العكسي لرفيق دربي قد ابتدأ، وأنه قد قرّر أخيرًا أن يترجل عن صهوة حياته غير الآمنة، وأن يبدأ رحلةً أخرى قد تكون أكثر أمنًا، وأقل صخبًا. أو لعله أراد معرفة جديدة، وخوض تجربة أخرى. كانت ابنته، حنين الغبرا، إلى جانبه، وهي تحدّثني عن رغبته بأن نستكمل مخطوطه الأخير عن النكبة الفلسطينية، والذي كتبه خلال مرضه، وأن نعدّه للنشر، وكان يجيب عن استفساراتي عبرها، ربما بإشارة أو إيماءة أو نظرة، حينها عرفت أنه قرّر أن يمضي في رحلته بعيدًا عن أحبائه.
عمّن نتحدث نحن الآن؟ عن الدكتور شفيق الغبرا، أستاذ العلوم السياسية، والكاتب والمفكر النقدي، الإنسان الكويتي العروبي الفلسطيني، أم عن الأخ جهاد، الفدائي المقاتل في صفوف الكتيبة الطلابية؟ وهل يمكن الفصل ما بين جهاد وشفيق، أم أن كل شخصية منهما هي استمرار للأخرى بصيغ وتلاوين مختلفة؟
تخلّى عن اسم شفيق، ليصبح جهاد الذي أصرّ على الالتحاق بالثورة الفلسطينية، ورفض العمل في صفوف مراكز الإعلام والبحوث والدراسات
كان لقائي الأول مع شفيق، الطالب في جامعة جورج تاون، حين التقيته في معسكر تدريب لطلبة الجامعات، مع نهاية عام 1973. كان الجو عاصفًا، كما هو المناخ السياسي الذي نجم عن حرب أكتوبر 1973 التي فتحت الباب واسعًا أمام القيادة الفلسطينية للالتحاق بقطار التسوية التي بدا حينها أنه قد غادر محطته الأولى. يومها اشتبك جهاد بحوارٍ قاسٍ مع ياسر عرفات، ولعله كان لقاءه الأول به، فقد ارتأى، مع مجموعةٍ كبيرةٍ من إخوانه، أن على منظمة التحرير أن تتمسّك ببرنامجها الأصلي بتحرير كامل التراب الفلسطيني، وأن تترك مهمة استرداد الأرض الفلسطينية التي احتُلت عام 1967 للأنظمة العربية التي ضيعتها، ولم يوافق ذلك هوى أبو عمار. .. بعد عام، عاد شفيق بعد أن تخرّج في جامعته، لكنه هذه المرّة كان قد تخلى نهائيًا عن اسم شفيق، ليصبح جهاد الذي أصرّ على الالتحاق بالثورة الفلسطينية، ورفض العمل في صفوف مراكز الإعلام والبحوث والدراسات، على أهميتها، وفضّل أن يكون فدائيًا مقاتلًا، والتحق بالكلية العسكرية لحركة فتح، وتخرّج فيها برتبه ملازم.
لن أكرّر هنا ما دوّنه جهاد في كتابه “حياة غير آمنة: جيل الأحلام والإخفاقات” (دار الساقي، بيروت، 2011)، وأكتفي بموجز سريع عنه، فقد التصق اسم جهاد وعلي أبو طوق باسم الكتيبة الطلابية التي عُرفت لاحقًا باسم “كتيبة الجرمق”، كما التصق اسمها بهما. أصبح وجود الأخ جهاد في موقع ما في الجنوب اللبناني مثار راحة وأمان واطمئنان لأهل الجنوب، كما هو مصدر ثقة وشجاعة وبسالة، ومنهل للتربية الثورية للمقاتلين الذين قاتلوا معه.
نجح جهاد في إقامة شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية والسياسية مع أهل الجنوب وقواهم السياسية، ما زالت آثارها بادية
وقف جهاد موقفًا حازمًا ضد جميع التجاوزات المسلكية، والاعتداءات على ممتلكات الجماهير التي مارسها بعض المنتمين إلى فصائل عدة، واستخدم في ذلك اللين والحوار تارة، والقوة والحزم تارة أخرى، حتى يمكن القول إن المناطق التي عمل فيها قد خلت تمامًا من التجاوزات. وبذلك نجح جهاد، إضافة إلى إنجازاته العسكرية المتميزة، في إقامة شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية والسياسية مع أهل الجنوب وقواهم السياسية، ما زالت آثارها بادية.
في الجانب الآخر، كان جهاد مقاتلًا صلبًا، وعُيّن قائدًا للسرية التي رابطت في منطقة بنت جبيل بين عامي 1976 و1978. وحين قرّر العدو الصهيوني ربط شطري الحزام الحدودي، تصدّى له جهاد بحنكته السياسية، ومنعت الجماهير الجنوبية تحقيق ذلك بحراكها السلمي، واعتصامها في وجه دبابات سعد حداد وضباط المخابرات الصهاينة. حينها قرّر العدو استخدام القوة العسكرية، واحتل بلدة مارون الراس المطلّة على مدينة بنت جبيل. كان الردّ سريعًا وحازمًا، وتمكّن جهاد من استرداد البلدة، بعد أن تسلق الجبل الذي تقع على قمته في الواحدة ظهرًا. يومها شاهد أهل الجنوب جثامين القتلى والآليات التي تركها العدو خلفه، وعلّق قائد جيش لبنان العربي، الرائد لقمان الزين، بأنه يجب إقامة تمثال في ساحة المدينة تخليدًا لذكرى هؤلاء الأبطال. وقد أنهت هذه المعركة حكاية الشريط الحدودي، وأجبرت العدو، خلال أيام، على اجتياح الجنوب اللبناني، فقاتل جهاد ورفاقه على امتداد أيام ثمانية، وكان أول من أطلق رصاصةً في بنت جبيل، وآخر من أطلق رصاصةً في بلدة العباسية، حيث منع الجيش الإسرائيلي من الوصول إلى مياه الليطاني.
سبعة أعوام أمضاها جهاد في صفوف المقاتلين وبينهم، وغادر إلى إكمال دراسته العليا متمسّكًا بقضيته الفلسطينية
اللقاء الثاني لجهاد مع ياسر عرفات كان في النبطية عام 1981، والتي تعرّضت لغارة صهيونية طاولت قلعة الشقيف والمواقع المجاورة. يومها طُلب من جهاد أن يتحرّك من منطقة الساحل على رأس سريته لتعزيز كتيبة بيت المقدس المرابطة هناك. وفعلا، تحرّك في الثانية ليلًا، وسط الغارات الجوية والقصف المدفعي الصهيوني، ليصل إلى تلك المواقع التي هوجمت، ويتموضع فيها، ويُخلي منها الشهداء وبعض الجرحى. يومها قال له أبو عمّار: “هذه النبطية أمانة بين أيديكم”.
سبعة أعوام أمضاها جهاد في صفوف المقاتلين وبينهم، وغادر إلى إكمال دراسته العليا متمسّكًا بقضيته الفلسطينية، معملًا عقله في نقد الاتجاهات السياسية التي سادت. أنهى شفيق أطروحة الدكتوراه، ببحثٍ يتعلق بالنكبة الفلسطينية والشتات الفلسطيني في البلد التي ولد ومات فيها، في الكويت التي حاز والده، الطبيب اللاجئ من صفد، جنسيتها. لاحقًا، طوّر شفيق أطروحته هذه، وأضاف إليها فصولًا جديدة غطّت فترة الاجتياح العراقي للكويت، وما آل إليه وضع الفلسطينيين فيها، في كتاب صدر ضمن سلسلة ذاكرة فلسطين عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ثم رفع بعضهم قضية ضد الدكتور شفيق لمنع توزيع الكتاب، لكن القضاء الكويتي العادل والنزيه رد القضية، وأشاد بالكتاب، باعتباره جهدًا علميًا مميزًا.
كان عروبيًا بامتياز؛ وقف مع الثورات العربية، واعتبر الربيع العربي حالا متجدّدة، كما وقف بصلابة ضد التطبيع العربي الرسمي مع الكيان الصهيوني
كما كان شفيق فلسطينيًا بامتياز، كان كويتيًا بامتياز أيضًا. انخرط في سلك التعليم، وفي العمل السياسي، مدافعًا عن الحريات، وعن النهج الديمقراطي، ومحافظًا على علاقاتٍ طيبة مع القوى السياسية الكويتية، على اختلاف تلاوينها. كما كان عروبيًا بامتياز؛ وقف مع الثورات العربية، واعتبر الربيع العربي حالا متجدّدة، كما وقف بصلابة ضد التطبيع العربي الرسمي مع الكيان الصهيوني، ولم يمنعه مرضه من المشاركة في عشرات الندوات عبر التطبيقات الإلكترونية للدفاع عن وجهة نظره تلك. وأذكر أنني في بعضها كنت أتدخل وأتحدّث بضع دقائق فقط، لأعطي شفيق فرصة لاسترداد أنفاسه المتهدجة من وقع المرض والمعاناة.
.. غادرنا شفيق إلى حياته الأخرى، لكنه ترك فينا آثارًا لا تُمحى، وأودعنا أن نكمل ما بدأه في كتابه عن القضية الفلسطينية، وفي مخطوطه عن رفيق دربه علي أبو طوق، وحرب المخيمات، وفي نشر كتابه “حياة غير آمنة” باللغة الإنكليزية، ولعلنا نحتفل معًا في ذكراه الأولى بإنجاز ما بدأه، وإكمال مسيرته العامرة بالحرية والحياة، وبكل ما هو جميل.
معين الطاهر
العربي الجديد