لندن – يعيش الاقتصاد البريطاني حالة من النقص الحاد في اليد العاملة، لم يشهدها البلد منذ عقود طويلة، مما أدى إلى نقص في بعض المواد الغذائية، وإغلاق عدد من المتاجر وتقليص القدرة الإيوائية للكثير من الفنادق لعدم وجود اليد العاملة المناسبة.
ومنذ منتصف شهر يوليو/تموز الذي صادف إعادة فتح البلاد والتخفيف بشكل كبير من قيود الحجر الصحي، ظهر أن السوق يعاني قلة اليد العاملة التي توصف بأنها “عمالة ذات مهارات محدودة” والتي تشتغل في البناء والأماكن السياحية وقيادة الشاحنات.
وحتى الآن لم تجد الحكومة البريطانية حلا لهذه الظاهرة النادرة، التي تهدد بارتفاع الأسعار، وفقدان كثير من المواد من الأسواق بحلول أعياد الميلاد، وهي المناسبة التي تشهد “انفجارا” استهلاكيا لا مثيل له في البلاد.
ما الذي يحدث؟
يواجه الباحثون عن توظيف العاملين في بريطانيا أزمة هي الأسوأ من حيث نقص اليد العاملة منذ عام 1990، وذلك حسب “كونفدرالية التوظيف البريطانية”. وبحسب المصدر نفسه، فإن عدد العاملين المتوفرين في السوق قد تراجع بمعدل هو الأسرع منذ سنة 1997.
ويواجه سوق العمل في بريطانيا حالة غير مسبوقة من الضغط، حيث أظهر استطلاع للرأي أنجزته الغرفة التجارية البريطانية أن 70% من الشركات التجارية البريطانية تجد صعوبة في العثور على العاملين خلال الأشهر الثلاثة الماضية، خصوصا في قطاع الأشغال العمومي، وسياقة الشاحنات، والعاملين في الفنادق والمطاعم.
يحدث هذا في وقت غادر فيه أكثر من 1.3 مليون عامل بريطانيا خلال سنة واحدة، بسبب وباء كورونا والبريكست، مما أحدث فراغا كبيرا في السوق.
وحسب الوكالة الوطنية للإحصاء، عدد الوظائف التي كانت متاحة في السوق خلال شهر يوليو/تموز بلغ نحو مليون وظيفة، وهو رقم قياسي لم يسجل منذ سنوات.
ومن بين القطاعات التي تعيش أزمة حقيقية قطاع النقل التجاري، إذ بات سوق العمل بهذا القطاع بحاجة إلى أكثر من 100 ألف سائق شاحنة. وحسب بعض التقديرات، إن هذا العدد سوف يحتاج إلى أكثر من 18 شهرا لتلبيته، مما جعل رواتب سائقي الشاحنات التجارية الكبرى ترتفع بشكل صاروخي، وتصل في بعض الأحيان إلى 10 آلاف دولار شهريا.
الأمر نفسه ينطبق على قطاع الجزارة، فحسب تقديرات الجمعية الوطنية للجزارة، سيضطر أصحاب المواشي لحرق أو قتل 100 ألف رأس من الماشية لعدم توفر من يقوم بالذبح والسلخ والتقطيع.
ولا تتوقع جمعية الصناعة البريطانية حلا قريبا لهذه الأزمة، بل قدمت توقعا متشائما يقول باستمرار هذه الأزمة لمدة سنتين على الأقل، في حال لم تقدم الحكومة على أي إجراءات لتجاوز هذه المشكلة.
ما الأسباب؟
يفسر الخبراء ظاهرة نقص اليد العاملة في بريطانيا، رغم الظروف الصعبة التي يمر بها العالم بسبب الوباء، بما يطلقون عليه “الفتح السريع”، ويقصدون بذلك أنه مباشرة بعد قرار الحكومة فتح البلاد منتصف شهر يوليو/تموز ارتفع الطلب وزاد الاستهلاك، لكن في المقابل هناك أكثر من 1.3 مليون عامل غادروا البلاد ولم يعودوا، إضافة إلى 1.2 مليون عامل ما زالوا يستفيدون من برنامج الدعم الحكومي (الدولة تدفع 80% من الأجور نيابة عن المشغل شريطة ألا يتم تسريح العامل) حتى نهاية شهر سبتمبر/أيلول الجاري، مما يعني أن نحو 2.5 مليون عامل يوجدون خارج السوق حاليا.
أما العامل الثاني فهو البريكست، الذي دفع العاملين الأوروبيين الذين كانوا يشتغلون في مهن “منخفضة الكفاءة” إلى مغادرة البلاد، وعدد كبير منهم لم يعد قادرا على العودة بسبب حاجتهم إلى تأشيرة لدخول البلاد من أجل العمل، خاصة سائقي الشاحنات.
ومع ذلك يبدو أن أداء سوق العمل البريطاني جيد، حيث سجل معدل البطالة حاليا نسبة 4.8%، ويتوقع البنك المركزي أن يرتفع إلى 5.5% مع نهاية البرنامج الحكومي لدعم الوظائف بنهاية سبتمبر/ أيلول، وهو رقم أفضل بكثير من توقعات سابقة للبنك المركزي كانت تقول إن نسبة البطالة قد تصل إلى 12% بسبب الوباء.
لهيب الأسعار
تواجه الحكومة البريطانية ضغوطا كبيرا لإيجاد حل لهذه الأزمة، التي سوف تنتهي إلى جيب المستهلك، ذلك أن أجور العاملين -في القطاعات التي تعاني نقصا- ارتفعت في المعدل ما بين 8 إلى 10%، مما يعني ارتفاع الأسعار وارتفاع معدل التضخم.
وحسب بعض التوقعات، فإن أسعار المواد الغذائية سترتفع بنسبة 5% بحلول الخريف، مع توقعات بنقص أو انعدام بعض المواد التي تشهد إقبالا كبيرا خلال أعياد الميلاد.
فعلى سبيل المثال، فإن أسعار الطماطم تضاعفت خلال سنة واحدة، أما أسعار الزيوت النباتية فقد سجلت أعلى معدل ارتفاع منذ أكثر من 30 سنة.
ويضغط التجار والمصنعون البريطانيون على الحكومة من أجل استصدار ما أسموه “تأشيرة التعافي من كورونا” التي تسمح للعاملين الأوروبيين بالعودة إلى السوق البريطانية من دون توقيف في الحدود أو استصدار تأشيرة عمل، من أجل تجاوز النقص الحاصل.
في المقابل، للحكومة البريطانية حساباتها التي تقول إن هذه الوظائف المتاحة من الممكن أن تذهب للبريطانيين الذين يستفيدون حاليا من برنامج دعم الوظائف، وفي حال عودتهم لسوق العمل سيغطون كل هذا النقص؛ وهكذا سيتم التحكم في نسبة البطالة. لكن المنتقدين يقولون إن السوق لن يتحمل المزيد من التعطيل في سلسلة الإنتاج.
المصدر : الجزيرة