لا تزال الصناعة التركية تعتمد اعتمادا كبيرا على المواد المستوردة، مما يعني استمرار مشكلة عجز الحساب الجاري للبلاد على الرغم من الزيادة القياسية في الصادرات.
كان الارتفاع الكبير في الصادرات محركا رئيسيا لمعدل نمو الاقتصاد التركي بنسبة 21.7% في الربع الثاني، ولكن مدى قدرة تركيا على الحفاظ على هذا الاتجاه مفتوح للتساؤل، حيث لا يزال منتجوها يعتمدون بشدة على المدخلات المستوردة، ويبدو أنهم استفادوا من ميزة غير محتملة لوباء “كوفيد-19”.
ويُعزى معدل النمو الهائل الذي تم الإعلان عنه في وقت سابق من هذا الشهر، إلى حد كبير إلى التأثير الأساسي القوي للربع الثاني من عام 2020، عندما انكمش الاقتصاد بأكثر من 10%، ولكن كان هناك أيضا زخم نمو واضح، تميز بزيادة الصادرات. وبينما ساهم انتعاش الطلب المحلي بنحو 14%، ساهمت الصادرات بنحو 11%.
محرك آخر
وبرزت الاستثمارات الجديدة كمحرك آخر، يغذيها استنفاد المخزونات أثناء وباء كورونا. ومع ذلك، فإن إحياء الصناعة أنتج أيضا بعض الرياح المعاكسة، وهي زيادة الحاجة إلى المواد المستوردة، وبذلك ارتفعت الواردات أيضا وبلغت مساهمة صافي الصادرات في النمو حوالي 7%.
وأظهرت المؤشرات الأولية استمرار الأثر الإيجابي للصادرات على النمو وميزان المدفوعات في الربع الثالث.
وبحسب بيانات وزارة التجارة، ارتفعت الصادرات بنسبة 37% إلى أكثر من 140 مليار دولار في الأشهر الثمانية الأولى من العام، بينما زادت الواردات بنسبة 26% إلى نحو 170 مليار دولار، مما يعني عجزا في التجارة الخارجية يقارب 30 مليار دولار. وبلغت قيمة الصادرات على أساس سنوي 208.4 مليارات دولار، والواردات 255.2 مليار دولار، مما يؤدي إلى عجز بنحو 47 مليار دولار. وتمثل هذه الأرقام مستوى قياسيا في الصادرات وأعلى مستوى في الواردات منذ عام 2013.
ويقرّ المصدّرون بأن الزيادة الحادة في تكاليف الشحن وسط جائحة كورونا قد دفعت المشترين الأوروبيين وحتى الأميركيين عن الانجذاب للبائعين الآسيويين إلى البائعين في مواقع أقرب، بما في ذلك تركيا.
تكاليف الشحن
تقول رابطة مصدّري الملابس في إسطنبول والتي تمثل مفتاحا صناعيا للصادرات التركية، في تقرير حديث، إن أسعار الشحن من تركيا قد زادت أيضا، لكن تركيا حصلت على ميزة معينة في الصادرات إلى أوروبا وسوقها الرئيسي، وكذلك الولايات المتحدة، حيث كانت الزيادة في تكاليف الشحن إلى الشرق الأقصى والصين أعلى بكثير.
وفي محاولة واضحة للحفاظ على التحول، لجأ المصدّرون الأتراك إلى الإغراق، بحسب بيانات رسمية عن أسعار المنتجين غير المحليين. وبالمثل، فإن ارتفاع مستوى البطالة في البلاد وانخفاض تكلفة العمالة قد لعب في مصلحة المصدرين، كما فعل انخفاض قيمة الليرة التركية.
المدخلات المستوردة
ومع ذلك، لا يزال المنتجون الأتراك يعتمدون على المدخلات والمعدات المستوردة لتلبية الطلب المتزايد لكل من المشترين المحليين والأجانب.
وفي تقرير منفصل، سلّطت جمعية مصدري الملابس في إسطنبول الضوء على الوجه الآخر من العملة: “على الرغم من أن زيادة تكلفة الشحن من آسيا إلى أوروبا أصبحت ميزة تنافسية لقطاع الملابس الجاهزة في تركيا من حيث الصادرات إلى أوروبا، إلا أنها زادت من تكلفة توفير هذا القطاع للمواد الخام من شرق آسيا الأقصى، مما تسبب في مشاكل في سلسلة التوريد”، كما يقول التقرير.
وتأتي تكاليف الشحن المرتفعة على رأس اعتماد المنتجين الأتراك الشديد على المدخلات المستوردة، والتي تصل تكاليفها إلى 50% من عائدات التصدير حتى في قطاعات مثل الملابس والأغذية والمنسوجات والجلود، التي تعتبر قطاعات تصدير صافية.
عجز الحساب الجاري
باختصار، تعني الزيادة في الصادرات زيادة في الواردات لتركيا، وفي النهاية، يؤثر النمو الاقتصادي على عجز الحساب الجاري للبلاد. حتى الزيادة القياسية في الصادرات فشلت في حل مشكلة عجز الحساب الجاري لتركيا، على الرغم من أنها ستساعد في تضييق الفجوة في النصف الثاني من العام، كما يتوقع العديد من المراقبين. وتتوقع الحكومة عجزا في الحساب الجاري يبلغ 21 مليار دولار بنهاية العام.
كان حزب العدالة والتنمية الحاكم لسنوات يشجع البناء باعتباره القوة الدافعة للنمو الاقتصادي، على الرغم من أن القطاع يركز بطبيعته على السوق المحلية وهو منفق وليس مصدرا للنقد الأجنبي. ومع الاضطراب في قطاع البناء الآن، يبدو أن الحكومة قد أعادت اكتشاف أهمية الصادرات الصناعية التي تدر أرباحا بالعملة الصعبة.
ففي برنامجها الاقتصادي المتوسط المدى الذي نُشر في 5 سبتمبر/أيلول الجاري، تتوقع الحكومة نموا اقتصاديا إجماليا بنسبة 9% هذا العام، مع مساهمة صافي الصادرات بـ3.4%. ومع ذلك، فإنه في السنوات الثلاث التالية، يتوقع معدل نمو من 5% إلى 5.5%، مع مساهمة صافية أقل نسبيا في الصادرات بنسبة 1% على الأكثر.
ومع ذلك، يتعهد البرنامج باتخاذ تدابير معينة لتشجيع الصادرات بشكل مستدام، مثل الجهود المبذولة لتحسين وتعزيز ممرات النقل واللوجستيات والسياسات التي تهدف إلى تعزيز الجودة والتصميم والعلامات التجارية في القطاعات ذات الإنتاج المنخفض التكنولوجيا في الغالب، لتعزيز القيمة المضافة للصادرات.
ويتوقع البرنامج أن تصل الصادرات إلى 211 مليار دولار، والواردات إلى 258 مليون دولار بنهاية العام. بعبارة أخرى، ستواجه تركيا عجزا في التجارة الخارجية بقيمة 47 مليار دولار على الرغم من ارتفاع الصادرات.
البطالة وانخفاض الأجور
ومع ذلك، ما العوامل الأخرى التي توفر قوة الدفع للصادرات؟ أول هذه العوامل هو قوة العمل التي أصبحت أرخص بسبب تفشي البطالة وتستخدم بشكل مكثف في إنتاج السلع المنخفضة التكنولوجيا على وجه الخصوص. وتظهر البيانات الرسمية أنه على الرغم من التوسع الاقتصادي في الربع الثاني، فإن الحصة التي يحصل عليها العاملون بأجر انخفضت بشكل ملحوظ عن نفس الفترة من العام الماضي.
الرافعة الثانية هي الانخفاض المستمر في قيمة الليرة التركية، فاعتبارا من أغسطس/آب، ارتفع سعر الدولار بنسبة 17% على أساس سنوي. وبينما تسبب الزيادة مشاكل في قطاع الاستيراد، فإنها تعود بفوائد على الصادرات، ومن ثم رغبة المصدرين في الإغراق. ومع انخفاض أسعار السلع المباعة في الخارج إلى ما دون أسعارها في الداخل، يسلط بعض النقاد الضوء على التأثير “الإغراقي” للنمو الاقتصادي في تركيا.
وفي كلتا الحالتين، تحتاج أنقرة إلى تحفيز الصادرات والتركيز على الإنتاج الصناعي الموجّه نحو التصدير وذي القيمة المضافة العالية، لتجنب أزمات عجز الحساب الجاري الخطيرة في المستقبل. وهذا يتطلب سياسة حوافز منتظمة وثابتة من شأنها أن تمنح الثقة للمنتجين. صحيح أن تركيا تأخرت في فعل ذلك، لكن هذا هو المخرج.
المصدر : المونيتور