في الثلاثين من شهر أيلول/سبتمبر الماضي شنت المقاتلات الروسية هجوما على مواقع تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” في سوريا على حد زعم القيادة الروسية. ويفهم من هذا الهجوم أن روسيا قررت، بعد مضي خمس سنوات على الحرب المستعرة في سوريا، التدخل بقوة في تلك الأزمة، بعد إعلان الكرملين منح الرئيس فلاديمير بوتين تفويضا بنشر قوات عسكرية في سوريا، بعد طلب الرئيس السوري بشار الأسد مساعدة عاجلة من موسكو.
وقد لقي هذا الهجوم ترحيباً من قبل الميليشيات الشيعية في العراق. ويظهر هذا الترحيب جليا بتصريحات أبرز زعماء المليشيات،إذ دافع هادي العامري زعيم ميليشيا بدر أقوى فصيل شيعي عراقي مسلح مدعوم من إيران والقيادي بالحشد الشعبي على التدخل الروسي في سوريا مرحبا بتوسيعه ليشمل العراق، حاملا في الوقت ذاته على الولايات المتحدة ودور التحالف الستيني الذي تقوده
وتحدّث هادي العامري أمام فعاليات “مهرجان الغدير التاسع للإعلام” بمدينة النجف العراقية مبديا استغرابه من اعتراض بعض الدول على الضربات الروسية على “داعش” في سوريا قائلا “اليوم قامت الدنيا ولم تقعد لمشاركة روسيا في محاربة داعش، ونسأل من أعطى هؤلاء المعترضين الشرعية في التدخل بسوريا”، ومبينا أن “روسيا بدأت تتحرك بفعالية على الإرهاب، وبالمقابل هناك من يريد بقاء داعش في العراق وليس القضاء عليه، ونحن منذ اليوم الأول لتشكيل التحالف الدولي لم نر الجدية الحقيقية المطلوبة لمحاربة داعش”.
ومن جهته رحب معين الكاظمي أكبر مساعدي قائد ميليشيا بدر في تصريح لرويترز أمس بالضربات الجوية الروسية على مقاتلي تنظيم داعش في العراق في تصريحات من شأنها أن تثير المزيد من قلق الولايات المتحدة، وقال إن فصيله يتطلع لرؤية طائرات حربية روسية تقصف مواقع ومقرات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وكل طرق إمداداته المشتركة مع سوريا. وأضاف أنه يرحب بمثل هذا التدخل من الروس للقضاء على داعش.
ومن جهتها عبّرت ميليشيا عصائب أهل الحق، إحدى أقوى الميليشيات الشيعية المسلّحة في العراق، أمس عن دعمها الكامل لتدخل روسيا وضرباتها الجوية ضد تنظيم الدولة” داعش” في الشرق الأوسط، متهمة الولايات المتحدة بأنها غير حاسمة في حملتها ضد التنظيم. وقال نعيم العبودي المتحدث باسم العصائب إن الضربات الجوية الروسية في سوريا حققت بالفعل نتائج، مضيفا أن الولايات المتحدة خلال العام ونصف العام الماضيين لم تكن جادة في القضاء على التنظيم.
والسؤال الذي يطرح في هذا السياق والذي يتفرع منه سؤال آخر، ما هي المكاسب التي ستعود على المليشيات الشيعية وحليفتها إيران من التحالف الرباعي(روسيا،إيران،سوريا،العراق) ؟، وهل ستعزز تلك المكاسب أيضا في حال تدخل روسي في العراق على غرار تدخله في سوريا، وما هي تداعيات التحالف على الدولة والمجتمع العراقي؟
تعود نشأة أقوى تلك الميليشيات وأبرزها إلى مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003م؛ فبعضها أُسِّس في إيران كورقة ضغط ضد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، ثم صُدِّرت إلى العراق واستقرت في هياكل الدولة من دون غربلتها أو تمحيصها. وهناك ميليشيات أخرى نمت من جذور حركة المقاومة الأهلية ضد الولايات المتحدة الأميركية بمساعدة إيرانية أو من دون مساعدة منها، وتنامى دورها مع تفاقم حدة التوترات الطائفية بين عامي2006م-2008م.
ومع ذلك تتفاوت المليشيات العراقية بشكل كبير من ناحية المهنية والأهمية العسكرية؛ فبعضها يعمل بالوكالة لمصلحة إيران، وبعضها الآخر أقل مهنية بكثير، وتعمل على المستوى المحلي فقط بوصفها مغامرة أطلقها الساسة الشيعة والشخصيات الدينية للتكيّف مع انحدار العراق بشكل سريع إلى دولة أمراء حرب. ومن أبرز هذه المليشيات: منظمة بدر، عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله، كتائب سيد الشهداء، حركة حزب الله النجباء، حركة أنصار الله الأوفياء، سرايا عاشوراء، حزب الله الأبرار.
وبعد تراجع موجات العنف في أعقاب هزيمة الجماعات السنية المسلحة أو استقطابها اختارت الميليشيات الشيعية شكلاً من أشكال التطبيع، فقلّصت عدد قواتها، وانخرطت في العملية السياسية، وأصبحت جزءاً منها، فأثّرت في النظام السياسي؛ إذ أصبح هدفها من المنافسة في السباق الانتخابي هو الحصول على الموارد والغطاء اللذين تقدمهما الدولة؛ فحدث مزيد من الانقسام والتشظي. بسبب صعود تنظيم الدولة «داعش» وتمدده في شمالي العراق في حزيران/يونيو عام 2014م؛ إذ حرص المالكي خلال حكمه على تعزيز سلطته الشخصية على حساب تقويض تماسك مؤسسات الدولة، وسمح بإحياء نشاط هذه الميليشيات، خصوصاً بعد اندلاع الصراع السوري عام2011م.
فقد مثلت الانتفاضة السورية حافزاً نشّط الميليشيات الشيعية النائمة في العراق بعد أن أعرب رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي عن تأييده للرئيس السوري بشار الأسد، وتسهيله رحلات الميليشيات الشيعة إلى سورية بدءاً من عام 2012 م؛ خوفاً من انتقال عدوى الانتفاضة إلى بلاده، أو انتصار المعارضة ذات الأغلبية السنية في سورية وتأثيره في ميزان القوى في العراق نفسه، وهو التصور الذي عززه تصاعد موجة الاحتجاجات في المناطق ذات الأغلبية السنية في العراق في أواخر عام 2012م.
وفتح الرئيس السوري بشار الأسد الباب أمام الميليشيات الشيعية في العراق للدخول إلى سورية؛ فشكّلوا مع نظرائهم السوريين خليطاً من المقاتلين المنتشرين في مناطق عدة بحجة حماية الأضرحة، ثم أصبحت المليشيات الشيعية تقاتل على الخطوط الأمامية في مناطق بعيدة من الدوائر الشيعية والرموز الدينية، وأصبحت سورية عامة أرضاً خصبة لمقاتلي الميليشيات العراقية الموجودة هناك لفرض سيطرتها في ميدان الصراع العسكري. وبحلول منتصف عام 2014 أصبحت الأدوات والشعارات السياسية والدينية الشيعية واضحة للعيان، وصارت جزءاً من المشهد السوري.
ونظراً للتحول الأمني المفاجىء في المشهد العراقي والذي ظهر في حزيران/يونيو من العام الماضي والمتمثل بسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام”داعش”، على المدينة الموصل، أدرك الإيرانيون خطورة هذا التحول الذي كان من شانه أن يهدد هيمنتها على العراق، لذا أوعزت إلى الميليشيات العراقية في سورية، بالعودة إلى العراق والمشاركة مع القوات الحكومية في مقاتلة تنظيم”داعش”، وتوحيد صفوفها تحت مسمى الحشد الشعبي بقيادة الجنرال الإيراني قاسم سليماني، الأمر الذي زاد من حدة التوتر الطائفي. والتي لغاية اليوم لم تستطع المليشيات الشيعية من دحر تنظيم الدولة”داعش” في العراق، والتي باتت بأمس الحاجة إلى مساعدة من دولة كبرى كروسيا مثلاً.
ومن هذا المنطلق سيكون توسيع روسيا لتدخلها بالمنطقة ليشمل العراق موضع ترحيب واسع من قبل قادة المليشيات الشيعية النافذة، نظراً للحرج الذي يواجهونه بفعل عدم تمكن المليشيات من هزم تنظيم الدولة”داعش” مثلما وعدوا بذلك، ورغبة، من جهة أخرى، في مكايدة الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت كثيراً ما انتقدت وعارضت استفراد المليشيات واستفرادها بتزعم الحرب على تنظيم الدولة”داعش” على حساب أبناء العشائر المحلية الذين كثيراً ما لوحت الولايات المتحدة الأمريكية بتدريبهم وتسليحهم وإقحامهم في المواجهة،لكنها تأخرت في ذلك كثيرًا.
ويمكن أيضا تفسير الترحيب بمشاركة روسيا في الحرب ضد تنظيم الدولة”داعش” في العراق من قبل المليشيات الشيعية، فهي ترى بما أن بين روسيا والجمهورية الإيرانية من تحالف ووفاق تستطيع القوى الشيعية بشقيها السياسي والعسكري تجييره لمصلحتها، بحيث يصبح التدخل الروسي بمثابة غطاء لمشاركة المليشيات في الحرب، وهي مشاركة لم يهدأ الجدل والانقسام بين العراقيين حولها.
وفي أولى مظاهر استفادة المليشيات الشيعية من التحالف الرباعي، كانت مصادر عراقية قد أكدت أن وزراة الدفاع العراقية مستبعدة عن الترتيبات الجارية لإنشاء غرفة العمليات المشتركة للتحالف الرباعي وتأسيس مقره في بغداد، وأن نائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس هو الذي يرأس الجانب العراقي من التحالف”.
كما سيرسخ هذا التدخل موقع المليشيات الشيعية في عراق ما بعد الانسحاب الأمريكي الرسمي له في كانون الأول/ديسمبر عام 2011م ، وسيؤدي إلى تآكل مؤسسات الدولة العراقية و”عسكرة” السياسة، مما يعود ذلك بالنفع على إيران لتشرعن وجودها العسكري في العراق والتأكيد على تحكمها بالنظام الطائفي القائم هناك. فهي لن تسمح لروسيا في حال تدخلها بأي خطوة للنفوذ في العراق.
أثار التحالف الرباعي، بوادر أزمة سياسيّة جديدة في العراق، مّما ينذر بانشقاق الكتل السياسيّة إلى فريقين؛ مؤيّد ومعارض، ففي الوقت الذي أعلن فيه تحالف القوى العراقيّة تحفّظه على التحالف، عادّا إياه وصفة جاهزة لتقسيم المنطقة بما فيها العراق، دافع التحالف الوطني الحاكم في العراق عنه، معتبرا إياه إنقاذا للبلاد من سيطرة تنظيم ”الدولة الإسلامية” (داعش)، فيما حذّر مراقبون من تعميق التحالف الرباعي للأزمات السياسية والطائفيّة في البلاد.
وقال النائب عن التحالف، ظافر العاني، خلال مؤتمر صحفي عقده في مبنى البرلمان العراقي، بحضور عددٍ من نواب تحالفه، إنّ ”تحفظنا على التحالف الرباعي، جاء لعدّة أسباب، منها أنّ قرار دخول العراق فيه قرار مفاجئ ولا علم للشركاء السياسيين به، ممّا يدل على عدم احترام الشراكة السياسيّة، وأنّ كل الكتل السياسية فوجئت به، على الرغم من أنّه قرار حساس للغاية”.
وأشار إلى أنّ “هناك أطرافا داخل التحالف الرباعي غير صديقة لمجتمعنا، ووجودها في العراق غير مرحب به”، مطالبا رئيس الوزراء، حيدر العبادي، بـ”إيضاح تفصيلي عن هذا التحالف، وكيف زجّ العراق ضمنه”.
وأكّد أنّ “دخول العراق في التحالف سيجعل منه ساحة للصراع الدولي بين القوتين الكبيرتين في العالم (روسيا والولايات المتحدة الأميركية)، وهو وصفة جاهزة لتقسيم المنطقة، بما فيها العراق وسورية، بين نفوذين متعارضين”.ودعا الحكومة إلى “إعادة النظر في الموضوع، وتقديم إيضاحات تفصيليّة للشركاء السياسيين بشأنه”، مشدّدا على “إشراك رؤساء اللجان الأمنيّة والمحافظين بمركز عمليات التحالف”.
فيما دافع التحالف الوطني عن انضمام العراق إلى التحالف الرباعي، داعيا الحكومة إلى “التعامل بجدّية معه”.وقال النائب عن التحالف، حامد الخضري، في بيان صحفي، إنّ “تشكيل التحالف الدولي تم قبل عام كامل وضم 60 دولة للقضاء على داعش، لكنّ التنظيم ما زال حتى الآن يمارس أبشع أنواع الجرائم والانتهاكات الفظيعة، مما يدل على عدم جديّة التحالف الدولي في القضاء على داعش”.
وأشار إلى أنّ تنظيم الدولة “داعش” يبيع النفط أمام أنظار العالم، ومسلحيه يتحرّكون ويتنقلون بين العراق وسوريّة وبالعكس، ويتدرّبون في البلدين، فأين التحالف الدولي من كل ذلك؟”، مطالبا الحكومة العراقيّة بـ”التعامل مع التحالف الرباعي بشكل جاد، لأنّه سيكون حافزا قويا قد يشجّع التحالف الدولي على اتخاذ خطوات جدّية بإسناد القوات العراقيّة والحشد الشعبي الذي أبلى بلاءً كبيرا في مقاتلة داعش وتطهير الأراضي العراقية من سيطرته”، بحسب تعبيره.
يرى مراقبون أن دخول التحالف الرباعي إلى العراق، هو بداية لأزمة سياسية بين الكتل السياسية في العراق. وأن التحالف الرباعي، عزّز وعمّق الخلاف السياسي والطائفي بين الكتل السياسية، لأن الدول التي دخلت فيه هي مركز الطائفية والمتمثل في إيران وسوريّة، والجهات الداعمة لها.
مما لاشك فيه، إن التدخل العسكري الروسي في العراق-إذا أصبح أمراً واقعياً- له تداعياته على الدولة والمجتمع العراقي وعلى الحالة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها، إذ سيتحول العراق إلى ساحة صراع وميدان لتصفية الحسابات السياسية بين روسيا وتحالفها الرباعي الجديد والمليشيات الشيعية وبين الولايات المتحدة الأمريكية والعشائر السنية، مستغلين الاحتقان والصراع الطائفي الذي نخر جسد العراق منذ الاحتلال الأمريكي عام2003م ولغاية الآن. الذي سيقود البلاد إلى الهاوية، ونشوب حرب طائفية بين أبناء الشعب الواحد لا تبقي ولا تذر.
أما على المستوى الدولي، ونظراً لحالة النظام الدولي الذي يمر بمرحلة اللاقطبية يمكن القول بأن التدخل العسكري الروسي في سوريا ومن ثم في العراق ما هو إلا معطيات لحرب عالمية ثالثة، تكون أرض العراق وبلاد الشام ساحتين لها، أدواتها أبناء الطائفتي المسلمتان السنة والشيعة ووقودها المدنيون.
وعليه تحوّلت سوريا اليوم إلى أكبر مركز تجمّع للجيوش والمقاتلين في العالم، وأكبر وأخطر مخزن سلاح بلا ضوابط. هي اليوم ساحة حرب عالمية محدودة في الجغرافيا، لكنها مفتوحة على أخطر الاحتمالات وأسوئها. أجواؤها تعجّ بالمقاتلات والقاذفات التابعة لدول كبرى وأخرى إقليمية. وأرضها متخمة بالجنود والمقاتلين التابعين لدول وقوى، تتناقض أهدافها، وتتضارب مصالحها، ويعيش بعضها تهديداً وجودياً، وبعضها الآخر يرى أمنه القومي في دائرة الخطر المباشر. الساحة السورية أصبحت مصدر التهديد الأكبر على استقرار المنطقة والعالم، وأدخلتهما مرحلة جديدة، أكثر خطورة وتعقيداً، ستحدّد نتائجها خريطة العالم الجديدة.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية