للبرتغال تاريخ طويل في تحدي الحكمة التقليدية؛ ففي عصر أظهرت فيه الخرائط أن الأرض تنتهي فجأة في مكان ما حول برمودا والمياه التي تعج بوحوش البحر، تحدى المستكشفون البرتغاليون المخاطر، فوضعوا كلا من فاسكو دا جاما (أول أوروبي يصل إلى الهند عن طريق البحر)، وبارتولوميو دا ياس (أول من دار حول رأس الرجاء الصالح)، وفيردناند ماجيلان (أول من أبحر حول الأرض)؛ في طليعة الإمبريالية العالمية.
الآن، وقد اختفت مستعمرات البرتغال منذ زمن طويل، لكن ولع هذه الدولة لرسم مسارها الخاص يتجلى في قدرتها الخارقة على الحفاظ على ما يمكن القول إنه الاقتصاد المختلط الأكثر نجاحا في الاتحاد الأوروبي.
ورغم الأزمة المالية العالمية قبل عقد من الزمان والركود الاقتصادي الذي أحدثه الوباء، فإن البرتغال برزت بوصفها نموذج نمو للاقتصادات الصغيرة، التي كافحت من أجل تحقيق التوازن بين التقاليد الثقافية والقيم السياسية في مواجهة متطلبات الاقتصادات الأكثر ضخامة، مثل ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا التي تشاركها استخدام اليورو.
ورغم القيود المالية التي يفرضها هذا التعايش على الأعضاء الأصغر في منطقة اليورو، فإن البرتغال وجدت صيغة للحفاظ على تكلفة المعيشة الأكثر رشادة في غرب أوروبا، مع بطالة منخفضة نسبيا ونمو اقتصادي مضطرد ورضا شعبي عام في عصر يسوده الاستقطاب.
وتعافت البرتغال ضمن مجموعة -تضم البرتغال، وأيرلندا، وإيطاليا، واليونان، وإسبانيا- من أعضاء منطقة اليورو للدول المثقلة بالديون من الركود العالمي الناجم عن وباء كورونا في الربع المالي المنتهي في 30 يونيو/حزيران الماضي، ورغم القيود المفروضة بسبب وباء كورونا الذي ضرب قطاع السياحة المهم في البرتغال؛ فإن اقتصادها توسع بمعدل سنوي بلغ 4.6% وفقا للمفوضية الأوروبية.
الطريق نحو الانتعاش
يتفق كل من صندوق النقد الدولي والبنك المركزي البرتغالي على أن البرتغال ستحقق نموا بنحو 4% عام 2021، ويعد ذلك إنجازا كبيرا بالنسبة لبلد يعتمد بشدة على السياحة التي جفت بشكل أساسي في عام 2020.
والبطالة في البرتغال تقدر بنسبة 6.7% وهي نسبة إيجابية إذا قورنت بألمانيا القوة العظمى التقليدية بالاتحاد الأوروبي، التي تبلغ البطالة فيها 5.5%، وحتى الولايات المتحدة 5.4% في يوليو/تموز الماضي. وفي المقابل، فإن معدل البطالة لجارتها إسبانيا يزيد على 15%، وتمكنت إيطاليا للتو من الهبوط لأقل من 10%، ثم اليونان التي ظلت رجل أوروبا المريض بنسبة 15.9%، وحتى أيرلندا -التي اتخذت مثالا من قبل المهندسين الماليين الذين صمموا شروط حزمة الإنقاذ القاسية لمنطقة اليورو- لديها نسبة أعلى في البطالة بمعدل 7.6%.
وتمكنت البرتغال من تحدي القوالب النمطية عن شعوب دول جنوب أوروبا “التي تفترض أنهم كسالى ووقحون”، وأن الدول التي يحكمها الاشتراكيون لا تملك الكفاءة وروح التنافس للجمع بين النمو والتماسك الاجتماعي وجودة الحياة.
مجموعة “يو إس نيوز آند وورلد ريبورت” (U.S. News & World Report) التي لا تدع موضوعا إلا وصنفته، كوّنت فريقا مع مدرسة وارتون التابعة لجامعة بنسلفانيا ومجموعة “براند أسيت فاليويتر” لتصنيف البرتغال بوصفها واحدة من قادة العالم في “جودة الحياة “.
المنهجية غامضة ومجموعة العشرين مزيج من دول المدينة والدول الإسكندنافية وشمال أوروبا، ومع ذلك تأتي البرتغال في المركز رقم 21 مباشرة بعد الولايات المتحدة.
تحتل البرتغال المرتبة رقم 17 في المؤشر العالمي للابتكار في مجال الرعاية الصحية، في دراسة سنوية أجرتها مؤسسة الأبحاث عن الفرص المتكافئة وهو مستودع فكر، وفي تصنيف الفهرس للجودة في اختيار الرعاية ونتائج المرضى صنفت البرتغال في المركز الثالث عالميا.
لم يكن الأمر هكذا دائما، فقد كشفت الأزمة المالية في العامين 2008 و2009 عن أوجه الضعف والتناقضات في مشروع منطقة اليورو، فدمج اقتصادات لدول مثل ألمانيا وفرنسا في عملة واحدة مع دول مثل لاتفيا، وقبرص، واليونان قاد إلى اضطراب.
وبسبب عدم قدرتها على تخفيض قيمة العملة الوطنية -الحل الاقتصادي التقليدي بالنسبة لأزمة الدين- فإن اقتصادات دول منطقة اليورو الأضعف فقدت تقريبا الوصول إلى الأسواق العالمية.
وكان الحل الذي فرضته الاقتصادات الكبرى بالقارة بقيادة ألمانيا هو التقشف العميق جدا، لدرجة أنه شل الاقتصادات الصغيرة لأكثر من عقد من الزمان.
لكن كانت البرتغال استثناء، فقد كادت أن تفلس بسبب الأزمة المالية العالمية بسبب عدم قدرتها على سداد ديونها الفصلية أو تخفيض قيمتها لتفادي المشاكل.
نمو وسط الأزمة
قبلت البرتغال تنفيذ اتفاق إنقاذ بقيمة 92 مليار دولار أميركي، مما تسمى “الثلاثية”؛ وهي المفوضية الأوروبية، وبنك أوروبا المركزي، وصندوق النقد الدولي عام 2011، وفي أوائل عام 2013 قفز معدل البطالة إلى 18% قبل أن يعاود الانخفاض، لكن لشبونة أوفت بالتزاماتها، وعلى عكس البلدان الأخرى التي تم فيها ترتيب عمليات الإنقاذ المالي فإن المشهد السياسي فيها ظل مستقرا نسبيا.
وأتاحت الحكومات الاشتراكية المجال للديمقراطيين الاجتماعيين عام 2015، ثم عادت إلى الاشتراكيين عام 2021، وعلى طول الطريق قاومت البرتغال ضغوطا لقبول حزمة ثانية من أموال الإنقاذ المالي، وتخلصت من التقشف المفروض عليها من الخارج.
ورغم ذلك، فقد برزت البرتغال، خاصة أنها كانت ولفترة طويلة أفقر دولة في أوروبا الغربية، وبمجرد انعتاقها من الترويكا، استخدمت مزيجا من الحوافز الضريبية، والمحفزات المالية والتواصل المبتكر للمستثمرين الأجانب، خاصة التأشيرة الذهبية والطريق إلى الحصول على المواطنة في الاتحاد الأوروبي لأي شخص ثري بما فيه الكفاية، لشراء ممتلكات بقيمة 500 ألف يورو (591 ألف دولار أميركي)، وساعد ذلك على زيادة النمو، الذي بلغ متوسط سرعته حوالي 2.6% منذ 2015 وحتى ظهور الوباء.
أعطى الزخم الذي تراكم خلال فترة الارتداد لشبونة مساحة لفتح الإنفاق عندما اشتدت الأزمة، والنتيجة أن اقتصاد البرتغال الآن قادر على مواجهة الأزمات وما يمكن القيام به بشكل مختلف في سياق الانتعاش الأوروبي.
فبعد تلقي الضربة عام 2020، والتراجع بأكثر من 7.5% فقط من المتوقع أن يتبعه نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4% لعام 2021، وأكثر من 5% في 2022، وذلك أعلى بكثير مما تنبأت به المفوضية الأوروبية لعام 2022 بالنسبة لدول أخرى في التكتل.
تلك البرتغال الجميلة، والأسعار التي في متناول اليد نسبيا، كانت سرا مفتوحا في عالم “المواطنين العالميين” لأكثر من عقد من الزمان، والآن تسارعت جزئيا من خلال سياسات ضرائبية وهجرية سخية بطريقة غير معتادة تهدف إلى إغراء الأثرياء من الأوروبيين الشماليين، وكذلك الأميركيون الشماليون للاستيطان، وانفجر عدد السكان المغتربين من حوالي 100 ألف شخص مطلع القرن 21 إلى ما يقارب نصف مليون شخص عام 2020، حيث تباطأ معدل الزيادة لأول مرة منذ الأزمة المالية بسبب كوفيد-19، وذلك وفقا لتقرير صادر عن دائرة الأجانب والحدود في البرتغال.
ومع ذلك، فإن العدد الإجمالي نما بنسبة 12.2% عام 2020، وزاد ذلك مع تخفيف القيود هذا العام.
والسبب وراء هذا التدفق نحو الشواطئ الجميلة وانخفاض الأسعار والمأكولات البحرية الرائعة “التأشيرة الذهبية”، التي على أساسها سمحت البرتغال للأجانب الذين يشترون العقارات باهظة الأثمان من أجل الحصول على إقامة قابلة للتجديد لمدة 5 سنوات، ويمكنهم البدء في أي وقت خلالها في إجراءات الحصول على الجنسية.
ففي السابق، كانت البرتغال وجهة شعبية للمتقاعدين من البريطانيين والألمان، وغيرهم من الباحثين عن الشمس من دول الاتحاد الأوروبي، والآن هناك موجات جديدة من الصينيين والروس والعرب والأميركيين، فبدأ المال يتدفق عندما دخلت “التأشيرة الذهبية” حيز التنفيذ في 2021، وأصبح كثيرون يعدون البرتغال في الوقت الراهن الدولة الأكثر جذبا للاستثمار الأجنبي في أوروبا.
البرتغال كانت ولفترة طويلة أفقر دولة في أوروبا الغربية (غيتي)
ديون
لكن لا تزال البرتغال مثقلة بكثير من الديون الحكومية، وبنحو 155% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2020، ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فإن ذلك الدين كبير لكنه أعقب أزمة اقتصادية تطلبت الإنفاق، ومرة أخرى ليست 236% من الناتج المحلي الإجمالي التي تثقل كاهل اليونان أو حتى 160% من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة.
وترى شركة “فيتش ريتنغ” (fitch ratings) للتقييم الاقتصادي أن هناك أسبابا للتفاؤل عقب الارتفاع الحاد العام الماضي، وأن الدين العام الحكومي سيستأنف الهبوط بمسار منخفض مدعوما بتحسن آفاق النمو وظروف تمويل مناسبة والتزام الحكومة بالتدابير المالية.
لكن البرتغاليين مع شراء أقل بكثير في الأسواق العالمية، وما يزالون كأسماك السردين وسط السلمون، ففي البيئة النقدية المخيفة لمنطقة اليورو تظهر البلدان الأوروبية الصغيرة بأنها بمزيج من السياسات والتدابير المالية وقليل من الحظ يمكن أن تنمي الاقتصاد وتعيش حياة جيدة أيضا.
المصدر : مواقع إلكترونية