تخوض تركيا في تلك الأيام معركتها الأخيرة من أجل الاستقلال المالي والاقتصادي بعيدا عن الوصاية الأمريكية، أملا في استقلالية القرار السياسي، حيث تمارس أمريكا ضغوطا اقتصادية وسياسية مستخدمة قوة الدولار الاقتصادية لضرب اقتصاد اي دولة تحاول التغريد خارج السرب. وبدأت تلك الضغوط السياسية بعد ثورات الربيع العربي عام 2011، حيث وقفت حكومة أردوغان إلى جانب الشعوب العربية في ثوراتهم، وتسبب هذا في غضب صناع القرار في أمريكا، الأمر الذي قابله أردوغان باتخاذ بعض التدابير الاقتصادية لتقليل الاعتماد على الدولار كعملة احتياطية تحسبا لحرب اقتصادية وسياسية متوقعة على حكومته من صانع القرار الأمريكي.
زيادة احتياطي الذهب التركي
يعتبر الغطاء الذهبي للنقود هو الأصل في إصدار النقود قبل ان تتخلي عن أمريكا عام 1971، وفي هذا الإطار بدأ أردوغان عام 2011، في إلزام البنوك التركية بأن يكون عشر الاحتياطي النقدي بالذهب، في اتجاه عام للدولة في إحلال تدريجي للذهب محل الدولار. وبعد فشل الانقلاب العسكري في يوليو 2016، قامت تركيا بسحب كامل ذهبها من أمريكا والبالغ 28 طن، كما استجابت البنوك لنداء أردوغان وقامت بسحب احتياطاتها من الذهب البالغ 220 طن، ليصل الاحتياطي الذهبي التركي إلي 546 طن عام 2017 بعد أن كان 110 طن عام 2011، حيث يشكل هذا الاحتياطي الذهبي 25 مليار دولار. وفي نفس السياق أصدرت وزارة المالية التركية أواخر عام 2017 سندات الذهب وصكوك التأجير الذهبية، وكانت نتيجة تلك الجهود انتقال 75 طنا ذهب من البيوت إلى البنوك التركية، كنوع من زيادة الغطاء الذهبي لليرة التركية في مواجهة الدولار.
تصفية بنك أسيا الممول لجولن
أعلنت الحكومة التركية إحكام قبضتها علي بنك أسيا عام 2015، والذي ثبت تورطه في تمويل منظمة فتح الله جولن، في إطار سعيها لتجفيف مصادر تمويل جماعة جولن المدعومة أمريكيا، ولمنع المنظمة من التلاعب في سوق الأسهم والسندات التركية أو تحويل أموال لعناصرها من أمريكا وأوروبا عبر هذا البنك.
القس برانسون والليرة التركية
بدأت الحكومة التركية بالتنسيق مع القوي الإقليمية في أسيا كالصين والهند وروسيا وإيران للتعامل بالعملات المحلية لتخفيف الضغط علي الاحتياطي الدولاري للدول
قامت تركيا باعتقال قس أمريكي علي صلة بجماعة فتح جولن الإرهابية في أكتوبر 2016 بعد 3 أشهر علي الانقلاب الفاشل، الأمر الذي قابلته أمريكا باعتقال نائب مدير بنك خلق التركي السابق حاكان اتيلا في مارس 2017، بتهمة التحايل علي العقوبات الأمريكية علي إيران عام 2012، حيث قام بنك خلق الذي تشرف عليه الدولة ببيع الذهب لإيران مقابل الغاز، للتحايل علي العقوبات الأمريكية علي إيران، وبالرغم من توقف البنك عن بيع الذهب لإيران بعد إغلاق أمريكا لتلك الثغرة، إلا أن المحكمة أدانته، في تسييس واضح للقضية.
ومع رفض تركيا الإفراج عن القس المتخابر مع جولن، عاقبت أمريكا حاكان اتيلا رئيس بنك خلق التركي السابق بالسجن 32 شهرا، كما أن الادعاء الأمريكي تقدم بطعن وطالب بتوقيع عقوبة الحبس لمدة 20 عاما، الأمر الذي دفع تركيا لوضع القس برانسون في الإقامة الجبرية وعدم الإفراج عنه، إلا بعد سحب الادعاء الأمريكي استئنافه ضد المصرفي التركي.
وفي أغسطس 2018، قام الرئيس الأمريكي بزيادة الرسوم الجمركية ضد الصادرات التركية من الألمونيوم والصلب في إعلان واضح للحرب الاقتصادية، الأمر الذي أدي لهبوط كبير في سعر الليرة التركية من 5 إلى 7 ليرات لكل دولار. وبالرغم من تلك الهزة الكبيرة للعملة التركية، إلا أن أردوغان أصر على شروطه الخاصة بالإفراج عن المصرفي التركي، خصوصا بعد أن قدمت منظمة فتح الله جولن شاهد زور، الذي ادعي تلقي أردوغان وحكومته وأسرته رشاوي مقابل التحايل على العقوبات الأمريكية علي إيران، كنوع من الضغط السياسي علي أردوغان.
وبعد إصرار الجانب التركي علي موقفه حدث انفراج في الأزمة في أكتوبر 2018، وتم الإفراج المشروط عن القس الأمريكي، والذي قابلته أمريكا بسحب الادعاء الأمريكي لطلب الاستئناف المقدم ضد المصرفي التركي، والذي من المتوقع الأفراج عنه في مايو 2019.
التعامل بالعملة المحلية مع روسيا والصين وإيران والهند
بدأت الحكومة التركية بالتنسيق مع القوي الإقليمية في أسيا كالصين والهند وروسيا وإيران للتعامل بالعملات المحلية لتخفيف الضغط علي الاحتياطي الدولاري للدول، وأسفرت تلك الجهود عن استيراد قمح من روسيا بالروبل الروسي، كما تم الاتفاق علي دفع قيمة صفقة منظومة صواريخ إس 400 والغاز الروسي بالليرة التركية أو الروبل الروسي.
وفي نفس السياق اتفقت كل من روسيا وإيران وتركيا في 2017، على بدء التعامل بينهم بالعملات المحلية، كما وافقت الهند علي شراء المنظومة الروسية الصاروخية المتطورة اس 400 بالروبل الروسي. كما قامت الصين في 2017 بإطلاق بورصة نفطية مقومة باليوان تسمح بشراء الغاز الروسي باليوان الصيني، في تعاون يعكس التنسيق بين القوي المناوئة لهيمنة الدولار الأمريكي علي التجارة العالمية.
التوسع في المصارف الإسلامية وإصدار الصكوك الإسلامية
توجه النظام المالي التركي في السنوات العشر الأخيرة إلي التوسع في افتتاح مصارف إسلامية، كما فتح بنكا زراعات ووقف الحكوميان فروعا للمعاملات الإسلامية، حيث يتميز النظام المصرفي الإسلامي بالأمان ضد اهتزازات السوق الناتجة عن وهمية رؤوس الأموال كالتي شهدها العالم إثر الأزمة المالية العالمية عام 2008، كما تم إصدار صكوك بالدولار واليورو تنويعا للإصدارات المالية للحكومة.كما أعلنت الحكومة التركية أواخر عام 2018 عن بدء إصدار سندات باليورو لتخفيف الضغط علي الدولار.
المشاركة في طريق الحرير ونقل الغاز الروسي
يخشي القطاع المصرفي الأوروبي من حدوث أزمة في الاقتصاد التركي ويسعي لدعمه بشتي الطرق، برغم الخلافات السياسية، خوفا من احتمالية تكرار أزمة اليورو مرة أخري عندما تخلفت اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا وقبرص عن سداد الديون
استثمر أردوغان الموقع الجغرافي لتركيا الواقع بين غرب أسيا وشرق أوروبا بطريقة جيدة حيث افتتح أردوغان عام 2017 مشروع سكة حديد (باكو تبليسي قارص) يربط تركيا بالصين، حيث يصل القطار من الصين لكازاخستان ثم يعبر بحر قزوين بعبَارات حتي باكو بأذربيجان، ثم يعبر لجورجيا ومنها إلي قارص بشرق تركيا، حتي يلتحم مع شبكة قطارات تركيا حتي إسطنبول، ومن المتوقع أن يساهم طريق الحرير في اختصار مدة نقل البضائع بين الصين وأوروبا إلي 15 يوم فقط.
كما وافقت تركيا على مد خطوط أنابيب لنقل الغاز الروسي والأذري لأوروبا عبر أراضيها، حيث يساهم هذا الارتباط الجيوسياسي بين تركيا وأوروبا في اعتبار تركيا ممر لإمدادات الطاقة والتجارة الأسيوية لأوروبا، مما يدفع دول مثل الصين وروسيا للمساهمة في التنمية الاقتصادية في تركيا، لضمان سرعة وصول منتجاتهما لأوروبا، الأمر الذي يعطي الاقتصاد التركي شهادة ضمان أمام البنوك الأوروبية، من اجل المشاركة في مشاريع البنية التحتية في تركيا.
تشابك الاقتصاد التركي بالأوروبي
في أغسطس 2018 ونتيجة لترابط النظام المالي التركي مع الأوروبي، ومع التراجع الكبير في الليرة التركية في خضم الأزمة الأمريكية التركية، تراجعت الاسهم الأمريكية والأوروبية والأسيوية مباشرة، كما تعرضت المؤشرات الألمانية والأوروبية لتراجع صنف هو الأسوأ منذ الاستفتاء علي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016.
يرجع ذلك التأثير نتيجة لتشابك الاقتصاد التركي بالاقتصاد الأوروبي، حيث تعتمد الشركات التركية على قروض أوروبية قصيرة الأجل تبلغ حوالي 200 مليار يورو، وأغلب تلك القروض من بنوك إسبانية وإيطالية وألمانية وفرنسية، الأمر الذي حدا بالمستشارة الألمانية ميركل ووزير ماليتها للتدخل لدعم تركيا سياسيا، حيث أكدوا أن اقتصاد تركيا القوي مهم لأوروبا.
حيث تدرك الحكومة التركية أن أوروبا لن تسمح باهتزاز النظام المالي التركي بسبب الارتباط الكبير بين النظام المالي التركي والأوروبي، حيث تستثمر البنوك الأوروبية في عدة مشاريع ضخمة للبنية التحتية في تركيا، الأمر الذي يجبر حكومات أوروبا على حفظ الاستقرار السياسي والاقتصادي لتركيا، حتى تستطيع البنوك والشركات التركية الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه بنوك أوروبا.
شبح أزمة اليورو يطارد بنوك أوروبا
يخشي القطاع المصرفي الأوروبي من حدوث أزمة في الاقتصاد التركي ويسعي لدعمه بشتي الطرق، برغم الخلافات السياسية، خوفا من احتمالية تكرار أزمة اليورو مرة أخري عندما تخلفت اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا وقبرص عن سداد الديون في عام 2009، بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، ولم تخرج منها منطقة اليورو إلا بخطط إنقاذ كلفتها مئات المليارات، وأثرت علي النمو في عدة بلدان أوروبية لسنوات، بسبب تشابك اقتصاد منطقة اليورو بشكل كبير.
هل تنتهي لعنة الدولار
بالرغم من الظروف السياسية والاقتصادية التي تعصف بتركيا مثل الدولة الكردية التي تحاول أمريكا إنشائها في الشمال السوري مرورا بأزمة الليرة التركية الأخيرة، إلا أن البدائل الاقتصادية والسياسية التي أنتجها أردوغان علي مدار فترة حكمه تعطي مرونة للمشرع التركي وتساعد علي استقلال القرار السياسي لتركيا بعيد عن تأثير الدولار، ومع استكمال المنظومة المالية التركية التي تهدف لتقليل الاعتماد علي الدولار الأمريكي سنشهد بروز قوي إقليمية مؤثرة في محيطها الدولي الأوروبي والأسيوي بشكل كبير في الفترة القادمة.
الجزيرة